الإسلام والعدالة
د. مصطفى الرافعي
الباحثون في القانون عرفوا العدالة بأنها:
((القواعد القائمة إلى جانب
قواعد القانون الأصلي مؤسسة على وحي العقل والنظر السليم وروح العدل
الطبيعي بين الناس)).
والشرائع القديمة استقت مبادئ العدالة من هذا المصدر الذي هو العقل وشعور
العدل في النفس. ولكن هذا المصدر اتخذ صوراً مختلفة تبعاً لاختلاف الشعوب،
فكان مصدر العدالة عند الرومان (قانون الشعوب)، وعند اليونان (قانون
الطبيعة)، وعند الإنكليز (ضمير الملك). أما مصدر العدالة في شريعة القرآن
هو العقل وحكمة الاشتراع في الاسلام.
والعدل يعني تمكين صاحب الحق من الوصول إلى حقه من أقرب الطرق وأيسرها.
والعدل أو العدالة هي واحدة من القيم التي تنبثق من عقيدة الاسلام في
مجتمعه. فلجميع الناس في مجتمع الاسلام حق العدالة وحق الاطمئنان إليها،
عملاً بقول الله تعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل).
واسم العدل الوسط مشتق من المعادلة بين شيئين بحيث يقتضي شيئاً ثالثاً
وسطاً بين طرفين. لذلك كان اسم الوسط يستعمل في كلام العرب مرادفاً لمعنى
العدل. فقد روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله (ص) في تفسيره
لقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً)، قال: (عدلاً، والوسط هو العدل).
والعدل في الاسلام لا يتأثر بحبّ أو بغض، فلا يفرق بين مسلم وغير مسلم، كما
لا يفرق بين حَسَب ونَسَب، ولا بين جاه ومال.. بل يتمتع به جميع المقيمين
على أرضه من المسلمين وغير المسلمين مهما كان بين هؤلاء وأولئك من مودة أو
شنآن، بقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء
بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى،
واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون).
فالعدل في الاسلام ميزان الله على الأرض، به يؤخذ للضعيف حقه وينصف المظلوم
ممن ظلمه، وفي الحديث القدسي: ((يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته
بينكم محرماً فلا تظالموا)). وأبواب السماء مفتوحة أمام الإمام العادل
وأمام المظلوم على سواء، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة لا تردّ
دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم)). فالله سبحانه
يجيب دعوته، وينصف من يستغيث به، ويدفع عنه مظلمته. بل أباح للمظلوم فوق
ذلك الدعاء على الظالم والتشهير به وقول السوء في حقه حتى يرجع عن ظلمه،
مصداقاً لقول الله تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم).
لقد دعا الاسلام إلى عدالة اجتماعية شاملة ترسيخاً لفكرة العدل كمبدأ،
وتنمية لها كسلوك لأن العدل هو أهم الدعائم التي يقوم عليها كل مجتمع صالح.
فالمجتمع الذي لا يقوم على أساس متين من العدل والإنصاف هو مجتمع فاسد
مصيره إلى الانحلال والزوال.
وعدالة الاسلام ذات سمة خاصة تميزها عن سائر العدالات. فمجتمع الاسلام يقوم
على توحيد الإله وتوحيد الأديان جميعاً في دين الله الواحد، وتوحيد الرسل
في الدعوة بهذا الدين الموحد منذ نشأة الحياة: (إن الدين عند الله الاسلام)
و (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون).
ومجتمع الاسلام يقوم على الوحدة بين العبادة والمعاملة والعقيدة والسلوك
والروحيات والماديات والقيم الاقتصادية والقيم المعنوية والدنيا والآخرة.
وعلى هذا، فإن عدالة الاسلام تتناول جميع مظاهر الحياة وجوانب النشاط فيها، وتسعى إلى تحقيق العدالة فيها بوسائل شتى:
ـ أولاً: إعلان الأخوة بين أبناء المجتمع الاسلامي، يقول الله تعالى: (إنما
المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم)، ويقول محمد (ص): ((لا يؤمن أحدكم حتى
يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
ـ ثانياً: تشديد النكير على كل عمل يوهن الأخوة الاسلامية، ومن أجل ذلك
حرّم التعالي والسخرية، بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من
قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيراً منهن).
وحرّم التعريض بالعيوب والتفاخر بالأنساب: (ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب).
وحرّم الغيبة والنميمة وسوء الظن: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من
الظن إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل
لحم أخيه ميتاً فكرهتموه).
ـ ثالثاً: الترغيب في كل ما يجمع القلوب ويدعم الوحدة وذلك كالدعوة إلى
الإصلاح بقوله (ص): ((ألا أدلك على أفضل من درجة الصلاة والصوم؟ إصلاح ذات
البين)).
وكحسن الجوار، بقوله: أتدري ما حق الجار عليك؟ إذا استعانك أعنته، وإذا
استقرضك أقرضته، وإذا افتقر عدت عليه، وإذا مرض عدته، وإذا أصابته سراء
هنأته، وإذا أصابته مصيبة عزّيته، وإذا مات اتّبعت جنازته. ولا تستطل عليه
بالبناء فتحجب الريح عنه إلا بإذنه ولا تؤذه بقتاد ريح قدرك إلا أن تغرف له
منها، وإذا اشتريت فاكهة فأهد له وإلا فأدخلها إلى بيتك سراً ولا يخرج بها
ولدك ليغيظ بها ولده)).
وكذلك أغرى الاسلام بالمساعدات والخدمات الاجتماعية فاعتبر مساعدة الضعيف
صدقة، وإزاحة الأذى عن الطريق صدقة، وحثّ على التعاون ابتغاء خير الجماعة،
فقال تعالى: (وتعاونوا على البرّ والتقوى).
وقال (ع): ((مَن أدخل السرور على أهل بيت من المسلمين لم يَرَ الله له جزاء
دون الجنة)). كما قال: ((لأن يمشي أحدكم في حاجة أخيه خير له من أن يعتكف
في مسجدي هذا شهراً)).
إن كل ما يشيع اليوم بين الناس من كثرة المقاضاة بشأن الديون والحقوق
واتساع رقعة الخصومات بشأن الاختلاف بين الناس على الأموال ونحوها مما يوهن
من رابطة الأخوة بين المسلمين فيما بينهم وبين غيرهم من بني الانسان لم
تكن لتحدث في صورتها الجامحة البشعة إلا نتيجة طغيان غرائز الانسان من
الطمع والجشع وحب الاستئثار الذي يجردهم من آدميتهم وإنسانيتهم وعقيدتهم
وضمائرهم، وقد جاء الاسلام علاجاً له ودعا إلى نبذه بالحديث النبوي الشريف:
((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً))، قالوا: يا رسول الله! ننصره مظلوماً
فكيف ننصره ظالماً؟ فقال (ع): ((تأخذون فوق يديه وتردعونه عن ظلمه)).
فالظلم ضدّ العدل. والعدل الاسلامي مبدأ مقرر في كل شيء ليس فقط في الأخوة ـ
حسبما بيّنا من قريب ـ حتى لا يوهنها الظلم، بل وفي القول وفي العمل وفي
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي النساء وفي الأقارب والأولاد
والضعفاء حتى في الجوارح فضلاً عن العدل في الاقتصاد وفي الشهادة وفي الحكم
الذي هو فرع من فروع المسؤولية، وهذه ينبغي أن تقوم على أساس العدل
المطلق. وهذا يتحقق بمعرفة كل مسؤول ما له وما عليه. وأمثلة ذلك:
1 ـ في القول:
(وإذا قلتم فاعدلوا).
2 ـ في العمل: يقول (ص) مخاطباً أهله:
((التمسوا لكم عملاً ينجيكم من الله، فوالله لا أغني عنكم من الله شيئاً)).
3 ـ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
(كنتم خير أمة أُخرجت للناس
تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر). وتبعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لا تُلقى على عاتق الفرد وحده، بل تُلقى على عاتق الجماعة كلها. فإذا
أهملت ذلك تعرضت للكوارث والويلات. يقول الله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن
الذين ظلموا منكم خاصة). كما يقول سبحانه: (لعن الذين كفروا من بني
إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا
لا تناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون).
4 ـ في النساء:
فالاسلام لا يعترف بالتفرقة الجائرة بين الرجل والمرأة في
معنى الانسانية المشترك وفي حق كل منهما، بأن يتمتع بمقتضيات حياته النوعية
وخصائصه الطبيعية في إطار الحق والعدل. يقول الله تعالى: (ومَن يعمل
الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً).
5 ـ في الأقارب وذوي الأرحام:
يقول الله تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون
به والأرحام). بمعنى: صلوها واعدلوا فيها ولا تغطوها أو تنسوا
حقوقها عليكم فتظلموها.
.
يتبع