6 ـ في الاقتصاد: إن كل عدل لا يقوم على اقتصاد منظم.. فهو عدل ناقص بل عدل
ظالم ـ إن صحّ التعبير ـ فلن نكون عمليين حين نقول للجائع أو العاري أو
المفلس أو العاطل عن العمل، لا ترتكب الجريمة قبل أن نحقق له مجتمعاً
صالحاً لا يجوع فيه ولا يعرى ولا يتعطل عن العمل.
هذا وقد تشدد الاسلام في نظرته إلى العدالة من زاويتها الاقتصادية فحرّم ما
نسميه نحن اليوم بلغتنا السياسية (الاستفادة غير المشروعة) عن طريق
استخدام النفوذ والسلطان. ومن الأمثلة على ذلك سلوك عمر بن الخطاب مع ولده
عبدالله حين رأى في طريقه إبلاً سمينة وسأل عمر عنها فقيل له إنها إبل
عبدالله بن عمر، فغضب ابن الخطاب وقال: ((ما سمنت إبل عبدالله إلا لأنه
أرعاها بجاه أمير المؤمنين، ادفعوا بها إلى بيت المال)) وأمر بمصادرتها.
ومن أمثلة العدل الاقتصادي في الاسلام: ضريبة العشور التي عرفتها معظم
الشعوب القديمة كالفراعنة والفرس واليونان والرومان، وهي تشبه ضريبة
الجمركية في أيامنا. فكانت تلك الشعوب قبل الاسلام ـ وبخاصة الرومان ـ
يجبونها على حدود المناطق المتعددة من الدول الواحدة وكانوا يتقاضونها في
العام الواحد مرات عديدة بعدد مرورهم على العاشر (أو الجمركي إذا جاز
التعبير)، كما كانوا يتقاضونها على جميع سلع التجارة مهما بلغ ثمنها قليلاً
أو كثيراً إلى ما هنالك من صعوبات ترهق كاهل المستورد أو التاجر المتجول
على حين إذا ا قارنا نظام الضريبة هذه بنظامها في الاسلام نجد أن الاسلام
امتاز فيها عن جميع الشعوب التي سبقته بأنه جمع العدل والرحمة والسماحة
والحكمة في فرض تلك الضريبة وفي تقديرها وفي تقاضيها.
أ ـ لم يفرض الاسلام ضريبة العشور ما لم تبلغ قيمة البضاعة نصاب الزكاة الذي هو عشرون مثقالاً من الذهب أو مئتا درهم من الفضة.
ب ـ لا تستوفى في الاسلام ضريبة العشور إلا مرة واحدة في العام مهما تعددت رحلات التاجر عبر دياره.
ج ـ لا تدفع في أرجاء الدولة الاسلامية إلا مرة واحدة مهما تعدد العشار أو (الجمارك).
د ـ لا يتعرض التاجر حال مروره على العاشر للإساءة إليه بتفتيشه، بل يكتفي العاشر بإقراره، لأن عمر بن الخطاب أمر بعدم تفتيش التجار.
هـ ـ لم تكن الأعشار في بداية فرضها تؤخذ من المسلم إذا أدّى زكاته ومن
الذميّ إذا أدّى جزيته، إنما كانت تضرب على المحاربين إذا استأذنوا كي
يتجروا في أرض المسلمين طبقاً لقاعدة المعاملة بالمثل، لأن ضريبة العشور
هذه لم يعرفها الاسلام إلى على عهد عمر بن الخطاب حين كتب إليه أبو موسى
الأشعري يستشيره في تجار من المسلمين يدخلون ديار الحرب فيأخذ منهم حكامهم
العشور، فكتب إليه عمر بأن يأخذ من المحاربين على تجارتهم إذا دخلوا ديار
الاسلام القدر الذي يأخذه هؤلاء من المسلمين وهذا مبدأ المعاملة بالمثل
المطبق اليوم عند كافة الدول الراقية.
7 ـ العدل في القصاص والحدود: وكذلك تناولت عدالة الاسلام الحدود، إذ
جعلتها متفاوتة لكي يتناسب الحدّ مع الجرم. فجعل الاسلام عقوبة الزنى الرجم
للمحصن والجَلد فقط لغير المحصن، تبعاً للفرق بين المتزوج والعازب، فقال
(ص): ((البكر بالبكر جلد مئة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مئة والرجم)).
8 ـ العدل في الشهادة: والشهادة في الاسلام حق واجب الأداء.. فكل مسلم أو
مسلمة مطالب بأداء الشهادة وعدم كتمها، لقول الله تعالى: (ومن أظلم ممن كتم
شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون).
9 ـ العدل في الحكم: فقد أمر الله رسوله أن يحكم بالعدل، في قوله سبحانه:
(وإذا حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين). كما أمر الله تعالى
مَن يأتي من بعد رسول الله من الحكام المسلمين أن يحكموا بالعدل بقوله
سبحانه: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل).
والحكم بالعدل يعني الحكم بما أنزل الله، والحكم بما أنزل الله يعني الحكم
بما ورد في كتاب الله وما صح صدوره عن رسول الله من قول أو فعل أو تقرير.
هذه الأمور الثلاثة التي تسمى سنّة، والقرآن والسنّة هما المصدران
الأساسيان للتشريع في الاسلام. وتفرع عن هذين المصدرين مصدران آخران
للتشريع في مذاهب أهل السنة، هما: الإجماع والقياس. فالإجماع هو ما أجمعت
عليه الأمة من الأحكام للحديث النبوي الشريف: ((ما رآه المسلمون حسناً فهو
عند الله حسن))، ولحديث آخر: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)). والقياس هو
(إلحاق أمر بأمر لعلة مشتركة بينهما). وقد أقرّ رسول الله القياس وامتدحه
إذا صدر من أهله حين لا يجد للحادثة حكماً منصوصاً عليه في كتاب الله أو في
سنة نبيه، وذلك في قوله لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن: ((كيف تصنع إن
عرض لك قضاء))؟ قال: أقضي بما في كتاب الله تعالى، قال: ((فإن لم يكن في
كتاب الله))؟ قال: فبسنّة رسول الله (ص)، قال: ((فإن لم يكن في سنة رسول
الله))؟ قال: ((اجتهد رأيي ولا آلو)) (لا أقصر عن جهد). فضرب رسول الله (ص)
بيده صدر معاذ ثم قال: ((الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول
الله)).
أما الشيعة الإمامية فإن مصادر التشريع عندهم ثلاثة لا غير، هي: الكتاب والسنّة والعقل.
هذا، ولما كان رسول الله (ص) القاضي الأول في الاسلام ـ كما ذكرنا ـ فقد
شرّع في القضاء مبادئ وأصولاً ومناهج لإقامة العدل ما زالت حتى يومنا
الحاضر تعتبر دستوراً لجميع قضاة الأرض، وستظل عَلَماً ونوراً يهتدون به
ويسيرون في ضوئه في كل مكان وعلى كل الأزمان.
من هذه المبادئ والأصول:
أ ـ أنه، عليه الصلاة والسلام، أوجب على كل قاض أن لا يقضي في الحادثة حتى
يسمع كلام الخصوم سماع فهم وتدبر، لقوله (ص) للإمام علي، كرم الله وجهه:
((إذا تقاضى إليك رجلاً فلا تقضي للأول حتى تسمع كلام الآخر فإنه أحرى أن
يتبين لك القضاء)).
ب أوجب رسول الله على القاضي حين يقضي أن يكون حاضر الذهن هادئ البال، غير
منفعل ولا غضبان، حتى يأمن الخطأ في قضائه، فقال (ص): لا يقضين حاكم بين
إثنين وهو غضبان)).
ج ـ شرع رسول الله مبدأ البينة على إقامة الحق والعدل، فقال: ((البيّنة على المدعي واليمين على مَن أنكر)).
وأخيراً، رب متسائل يتساءل: هل الحكم بالعدل وترك الظلم والجور يشمل جميع
الناس من المؤمنين بالله وغير المؤمنين؟ وأن غير المؤمنين إذا حكموا بالعدل
في الدنيا، فهل ينالون ثواب عدلهم في الآخرة، فلدفع هذا التساؤل نقول:
((إن الجزاء جزاءان، جزاء دنيوي، وجزاء أخروي)).
فبالنسبة للأول إن قوانين الحياة وسُنن الطبيعة لا تفرق بين مؤمن وكافر،
مصداقاً لقوله سبحانه: (إن الله لا يظلم الناس شيئاً)، ولفظ (الناس): يعمّ
المؤمن والكافر، بحيث ينال كل منهما ثواب عدله واستقامته في هذه الحياة
الدنيا، لأن الدنيا يعطيها الله للمؤمن والكافر، لمني حب ولمن لا يحب. أما
الآخرة فإنه لا يعطيها إلا مَن يحب.
أما جزاء العدل في الآخرة فجائز أن يخفف الله به العذاب عن الكافرين في
الدارة الآخرة إذا أحسنوا أعمالهم واستقاموا في الحياة الدنيا. ولكن الثواب
على العدل في الآخرة فهو مختص بالمؤمنين فقط، لأن من مستلزمات الثواب يوم
القيامة أن يكون الانسان مؤمناً يجمع أركان الإيمان وفي طليعتها الإيمان
بالله تعالى وأنه واحد لا شريك له. والذي لا يؤمن هذا الإيمان ولكنه يعدل
في الدنيا ويسير على سنن الصلاح والإصلاح فإنه يعمل ما يعمل قاصداً الدنيا
وحدها لعدم إيمانه بالآخرة. وهذا منتهى العدل الرباني، حيث يقول سبحانه:
(مَن كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومَن كان يريد حرث الدنيا نؤته
منها وما له في الآخرة من نصيب)، وحيث يقول الحديث الشريف: ((إن الله لا
يظلم مؤمناً حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجازي بها في الآخرة. وأما
الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة
يعطى بها خيراً)).
فمن عدل الله تعالى أن يعطي كل إنسان ما يطلب لا أكثر، وإنما كثيراً ما
يوفق الله فاعل الخير والبر والعدل من غير المؤمنين إلى الإيمان لما ورد:
((إن أعمال الخير تختم لصاحبها بخاتمة الخير)).
ووفاقاً لما أعلنه رسول الله:
((لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يداها)).
منقول للفائدة