علاج الخوف من الموت
إن الخوف من الموت ليس يعرض إلا لمن لا يدري ما الموت على الحقيقة أولا يعلم إلى أين تصير نفسه أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل وبطل تركيبه فقد انحلت ذاته وبطلت نفسه بطلان عدم ودثور وأن العالم سيبقى موجود أو ليس هو بموجود فيه كما يظنه من يجهل بقاء النفس وكيفية المعاد. أو لأنه يظن أن للموت ألما عظيما غير ألم لأمراض التي ربما تقدمته وأدت إليه وكانت سبب حلوله أو لأنه يعتقد عقوبة تحل به بعد الموت. أو لأنه متحير لا يدري على أي شيء يقدم بعد الموت. أو لأنه يأسف على ما يخلفه من المال والمقتنيات وهذه كلها ظنون باطلة لا حقيقة لها. أما من جهل الموت ولا يدري ماهو على الحقيقة فإنا نبين له أن الموت ليس بشيء أكثر من ترك النفس استعمال آلاتها وهي الأعضاء التي يسمى مجموعها بدنا كما يترك الصانع إستعمال آلاته. وأن النفس جوهر غير جسامني وليست عرضا وإنها غير قابلة للفساد وهذا البيان يحتاج فيه إلى علوم تتقدمه وهو مبرهن مشروح على الإستقصاء في موضعه الخاص به. من تطلع إليه ونشط للوقوف عليه لم يبعد مرامه ومن قع بما ذكرته في صدر هذا الكتاب وسكنت نفسه إليه علم أن ذلك الجوهر مفارق لجوهر البدن مباين له كل المبانية بذاته وخواصه وأفعاله وآثاره فإذا فارق البدن كما قلنا وعلى الشريطة التي شرطنا بها البقاء الذي يخصه ونقى من كدر الطبيعة وسعد السعادة التامة ولا سبيل إلى فنائه وعدمه.
فإن الجوهر لا يفنى من حيث هو جوهر ولا تبطل ذاته وإنما تبطل الأعراض والنسب والإضافات التي بينه وبين الأجسام بأضدادها. فأما الجوهر فلا شد له ولك شيء يفسد فإنما فساده من ضده وقد يمكنك أن تقف على ذلك بسهولة من أوائل المنطق قبل أن تصل إلى براهينه.
وإن أنت تأملت الجوهر الجسماني الذي أخس من ذلك الجوهر الكريم واستقرت حاله وجدته غير فإن ولامتلاش من حيث هو جوهر إنما يستحيل بعضه إلى بعض فتبطل خواصه شيئا فشيئا منه وأعراضه. فأما الجوهر نفسه فهو باق لا سبيل إلى عدمه وبطلانه. مثال ذلك الماء فإنه يستحيل بخارا وهواء وكذلك الهواء يستحيل ماء ونارا فتبطل عن لجوهر أعراضه وخواصه وأما الجوهر من حيث هو جوهر فإنه لا سبيل إلى عدمه هذا في الجوهر الجسماني القابل للإستحالة والتغير. فأما الجوهر الروحاني الذي لا يقبل الإستحالة ولا التغير في ذاته وإنما يقبل كمالاته وتمامات صورة فكيف يتوهم فيه العدم والتلاشي. وأما من يخاف الموت لأنه لا يعلم إلى أين تصير نفسه أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل وبطل تركيبه فقد انحلت ذاته وبطلت نفسه وجهل بقاء النفس وكيفية المعاد فليس يخاف الموت على الحقيقة وإنما يجهل ما ينبغي أن يعلمه. فالجهل إذا هو المخوف إذ هو سبب الخوف. وهذا الجهل هو الذي حمل الحكماء على طلب العلم والتعب به وتركوا لأجله اللذات الجسمانية وراحات البدن وأختاروا عليه النصب والسهر ورأوا أن الراحة التي تكون من الجهل هي الراحة الحقيقية. وأن التعب الحقيقي هو تعب الجهل لأنه مرض مزمن للنفس والبرء منه خلاص لها وراحة سرمدية ولذة أبدية. ولما تيقن الحكماء ذلك وأستبصروا فيه وهجموا على حقيقته ووصلوا إلى الروح والراحة منه هانت عليهم أمور الدنيا كلها واستحقروا جميع ما يستعظمه الجمهور من المال والثروة واللذات الحسية والمطالب التي تؤدي غليها إذ كانت قليلة الثبات والبقاء سريعة الزوال والفناء كثيرة الهموم إذا وجدت. عظيمة الغموم إذ فقدت. واقتصروا منها على المقدار الضروري في الحياة وتسلوا عن فضول العيش الذي فيه ما ذكرت من العيوب وما لم أذكره ولأنها مع ذلك بلا نهاية ذلك أن الإنسان إذا بلغ منها إلى غاية تاقت نفسه إلى غاية أخرى منغير وقوف على حد ولا إنتهاء إلى الأمد. وهذا هو الموت لا ما يخاف منه والحرص عليه هو الحرص على الزائل والشغل به هو الشغل بالباطل. ولذلك جزم الحكماء بأن الموت موتان موت إرادي وموت طبيعي.
وكذلك الحياة حياتان حياة إرادية وحياة طبيعية وعنوا بالموت الإرادي إماتة الشهوات وترك التعرض لها وبالموت الطبيعي مفارقة النفس البدن.
وعنوا بالحياة الإرادية ما يسعى له الإنسان لحياته الدنيا من المآكل والمشارب والشهوات. وبالحياة الطبيعية بقاء النفس السرمدي بما تستفيده من العلوم الحقيقية وتبرأ به من الجهل. ولذلك وصى أفلاطون طالب الحكمة بأن قال له مت بالإرادة تحي بالطبيعة. على أن من خاف الموت الطبيعي للإنسان فقد خاف ما ينبغي أن يرجوه. ذلك أن هذا الموت هو تمام حد الإنسان لأنه حي ناطق ميت. فالموت تمامه وكما له وبه يصير إلى أفقه الأعلى. ومن علم أن كل شيء هو مركب من حد وحدّه مركب من جنسه وفصوله. وأن جنس الإنسان هو الحي وفصلاه الناطق والمايت علم أنه سينحل إلى جنسه وفصوله لأن مركب لا محالة منحل إلى ما تركب منه. فمن أجهل ممن يخاف تمام ذاته ومن أسوء حالا ممن يظن أن فناءه بحياته ونقصانه بتمامه.
ذلك أن لاناقص إذا خاف أن يتم فقد دل من نفسه على غاية الجهل. فإذا الواجب على العاقل أن يستوحش من النقصان ويأنس بالتمام ويطلب كل ما يتممه ويكمله ويشرفه ويعلى منزلته ويخلي رباطه من الوجه الذي يأمن به الوقوع في الأسر لا من الوجه الذي يشدو وثاقه ويزيده تركيبا وتعقيدا ويثق بأن الجوهر الشريف الإلهي إذا تخلص من الجوهر الكثيف الجسماني خلاص بقاء وصفو لاخلاص مزاج وكدر فقد سعد وعاد إلى ملكوته وقرب من بارئه وفاز بجوار رب العالمين وخالط الأرواح الطيبة من أشكاله وأشباهه ونجا من أضداده وأغياره، ومن ههنا يعلم أن من فارقت نفسه بدنه وهي مشتاقة إليه مشفقة عليه خائفة من فراقه فهي في غاية الشقاء والبعد من ذاتها وجوهرها سالكة إلى أبعد جهاتها من مستقرها طالبة قرار ما لا قرار له. أما من ظن أن للموت ألما عظيما غير ألم الأمراض التي ربما اتفق أن تتقدم الموت وتؤدي إليه فعلاجه أن يبين له أن هذا ظن كاذب لأن الألم إنما يكون للحيّ والحي هو القابل أثر النفس.
وأما الجسم الذي ليس فيهأثر النفس فإنه لا يألم ولا يحس فإذا الموت الذي هو مفارقة النفس البدن لا ألم له لأن البدن إنما كان يألم ويحس بأثر النفس فيه فإذا صار جسما لا أثر فيه للنفس فلا حس له ولا ألم.
فقد تبين أن الموت حال للبدن غير محسوس عنده ولا مؤلم لأنه فراق ما به كان يحس ويتألم فأما من خاف الموت لأجل العقاب الذي يوعد به بعد. فينبغي أن نبين له أنه ليس يخاف الموت بل يخاف العقاب والعقاب إنما يكون على شيء باق بعد البدن الدائر. ومن اعترف بشيء باق منه بعد البدن وهو لا محالة معترف بذنوب له وأفعال سيئة يستحق عليها العقاب ومع ذلك هو معترف بحاكم عدل يعاقب على السيئات لا على الحسنات فهو إذا خائف من ذنوبه لا من الموت.