غزوة بدر
في ميدان المعركة
إ
نها ساعة الصفر، الجيشان أمام بعضهما.
قام رجل من المشركين اسمه الأسود بن عبد الأسد المخزومي، وأقسم أن يشرب من حوض المسلمين أو ليموتَنَّ دونه.
انظر كيف يمكن أن يكون حجم الضلال، كفاح وتضحية واستعداد للموت من أجل قضية فاسدة {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا} [فاطر: .
وقام الرجل ليبرَّ بقسمه، لكن قابله الأسد حمزة بن عبد المطلب وضربه ضربة قطعت ساقه، ومع ذلك -سبحان الله- فقد كان الرجل مصرًّا على الوفاء بقسمه، وزحف على الأرض ليصل إلى ماء بدر، لكن حمزة أدركه وقتله قبل أن يصل إلى مراده.
كانت هذه نقطة مهمة جدًّا لصالح المسلمين، وليس المهم مَن هذا الشخص الذي قتل، ولكن المهم أن هذا حدث في أول دقيقة من المعركة، فكان هذا توفيقًا كبيرًا من رب العالمين، رفع معنويات المسلمين، وأحبط معنويات الكافرين.
المبارزة قبل المعركة
تحرك الغيظ في قلوب زعماء الكفر.
فنهض ثلاثة من الزعماء بأنفسهم يطلبون المبارزة مع ثلاثة من المسلمين، وكانت هذه عادة في الحروب القديمة، أن يتبارز أفراد قلائل كنوع من الاستعراض، ثم يبدأ الهجوم العام الشامل بعد ذلك.
من الذي قام من الكفار؟ أمر عجيب.
لقد قام ثلاثة من عائلة واحدة!
قام عتبة بن ربيعة القائد القرشي الكبير، وقام أخوه شيبة بن ربيعة القائد القرشي الكبير أيضًا، وقام ابن أخيه الوليد بن عتبة أحد فرسان قريش المشهورين.
هذه مجموعة من أفضل فرسان مكة.
لكن العجيب الذي يلفت النظر هو قيام عتبة بن ربيعة.
عتبة بن ربيعة كان من الحكماء المعدودين في قريش، وكان من أصحاب الرأي السديد في أمور كثيرة، وكان يدعو قريشًا أن تخلي بين رسول الله وبين العرب، ولا يقاتلوه، وكان يقول إن هذا الرجل ليس بشاعر ولا كاهن ولا ساحر ولا بكاذب، وكان يرفض فكرة القتال في بدر بعد إفلات القافلة، وكان إلى آخر لحظة يجادل المشركين في قضية القتال، لدرجة أن الرسول نظر إليه من بعيد قبل بدء المعركة، وكان عتبة يركب جملاً أحمر، فقال لأصحابه: "إِنْ يَكُنْ فِي أَحَدٍ مِنَ الْقَوْمِ خَيْرٌ، فَعِنْدَ صَاحِبِ الْجَمَلِ الأَحْمَرِ، إِنْ يُطِيعُوهُ يَرْشُدُوا"
لكن القوم لم يطيعوه، وأصرُّوا على القتال.
وللأسف الشديد! دخل عتبة معهم المعركة ولم يرجع كالأخنس بن شريق. وللعجب الشديد، خرج في أول من خرج للمبارزة والقتال.
لقد كان عتبة بن ربيعة مصابًا بمرض الإمَّعِيَّة.
حكيم في الرأي، ولكن يسير مع الناس، إذا أحسنوا أحسن، وإذا أساءوا أساء، ضعيف الشخصية، مهزوز، متردد.
وهذا الذي أَرْداه فأصبح من الخاسرين. وهذا النموذج نراه كثيرًا: أشخاص ذوو رأي سديد، تُعقد عليهم الآمال في تغيير مَن حولهم، ولكنهم يخيبون تلك الآمال، ويسيرون مع التيار؛ فيهلكون.
خرج الفرسان الثلاثة يطلبون القتال، فخرج لهم ثلاثة من شباب الأنصار.
لكن الفرسان المشركين قالوا: لا حاجة لنا بكم، إنما نريد أبناء عمِّنا.
نريد قتالاً قرشيًّا قرشيًّا.
فقال رسول الله :
قم يا عبيدة بن الحارث (عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ابن عمه).
قم يا حمزة (عمه).
قم يا علي بن أبي طالب (ابن عمه).
وانتبهوا لهذا الاختيار، كلهم من الأقربين، مع أن القتال خطير، لكن القائد وعائلته يعيشون حياة الناس تمامًا، ويتعرضون لكل مشاكل الأمة، وفي أوائل المضحين والمجاهدين.
وبدأت المبارزة!
يوجد اختلاف في الروايات حول مَن بارز مَن؟ لكن رواية أحمد وأبي داود تقول: إن علي بن أبي طالب بارز شيبة، وإن حمزة بارز عتبة، وإن عبيدة بن الحارث بارز الوليد بن عتبة.
والتقت السيوف، واحتدم الصراع، وارتفعت الآهات، ثم بدأت الدماء تسيل بل تتساقط الأشلاء.
دقائق معدودة وانتهت الجولة الأولى من الصراع، ومرة ثانية لصالح المسلمين.
الله أكبر، ولله الحمد!
علي بن أبي طالب قتل شيبة.
وحمزة بن عبد المطلب قتل عتبة، لم تنفع عتبةَ حكمتُه.
وأصيب عبيدة والوليد بإصابات بالغة، فانطلق عليٌّ وحمزة على الوليد بن عتبة فقتلاه، وحملا عبيدة إلى معسكر المسلمين.
في أول وقود للمعركة أربعة قتلى للمشركين.
واشتعلت أرض بدر بالقتال.
هجوم شامل كاسح في كل المواقع.
صيحات المسلمين ترتفع بشعارهم في ذلك اليوم: أَحَدٌ أَحَد.
صليل السيوف في كل مكان، والغبار غطَّى كل شيء.
الصدام المروع الذي يحدث للمرة الأولى بين المسلمين والكافرين.
التربية بالجنة
ومع كل الحماسة التي كان المسلمون فيها إلا أنهم ما زالوا في حاجة للتشجيع والتحفيز أكثر وأكثر؛ لأن الموقف صعب، بل غاية في الصعوبة، هنا يأتي دور التحفيز بشيء، ليس هناك مؤمن واعٍ فاهم يكسل أو يتعب عندما يسمعه.
جاء وقت التذكير بالجنة.
رفع رسول الله صوته ليُسمِع الجميع: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يُقَاتِلُهُمُ الْيَوْمَ رَجُلٌ، فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ إَلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ"
الكلام عجيب، هذا الكلام لا يمكن أن يفهمه علماني، ولا يمكن أن يفهمه كافر أو فاسق.
الكلام عجيب؛ لأن الرسول لم يحفز الناس على الدفاع عن حياتهم، بل حفزهم على فَقْد حياتهم.
يا الله! انتبه لهذا القول: "لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا".
من كان يعيش لدنيا، وقُتِل فَقَدَ كل شيء.
لكن من كان فاهمًا لمعنى الجنة سيكون للقتل عنده معنى آخر، ولكن الجنة ليست على الأرض.
الجنة تأتي بعد الموت، يعني الموت هو الحاجز الوحيد بين الشهيد الذي يقتل في أرض القتال، وبين الجنة.
الموت هو الحاجز الوحيد لو عبرناه دخلنا الجنة.
الشهيد يدخل الجنة بغير حساب.
فلو جاء الموت صِرْنا من أهل الجنة. إذن يا ليت الموت يأتي.
سبحان الله!
الموت المكروه عند عامَّة البشر، يصبح أمنية بل أسمى الأماني لمن فَقِه حقيقة الجنة.
- "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ". رواه البخاري عن أبي هريرة.
- وروى البخاري ومسلم عن أنس t قال: قال رسول الله : "لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ أَوْ مَوْضِعُ قَدِّهِ (سوطه) فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ لأَضَاءَتِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَمَلأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا (ما بين السماء والأرض أو ما بين المشرق والمغرب)، وَلَنَصِيفُهَا (خمارها) عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا".
لا يمكن للإنسان أن يكون عنده يقين في هذا الكلام؛ ثم لا يشتاق إليه.
لذلك فالجيش المنصور جيش يحب الموت فعلاً.
كلمة خالد بن الوليد المشهورة التي ذكَّرناكم بها قبل ذلك: "جئتكم برجال يحبون الموت، كما تحبون أنتم الحياة".
وعندما تكلم الرسول عن الأمة المهزومة ذكر من صفاتها الوَهْن.
فسُئل: وما الوهن؟
فقال: "حبُّ الدنيا، وكراهيةُ الموت".
فلو وُجِد هذا في نفوس الأمة هُزِمَت، ولو أحبت الأمة الموت وُهِبَت النصر، ووهبت الجنة.
إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل الراحل كان يقول تعليقًا على اتهام اليهود له بعدم القدرة على السيطرة على حماس والجهاد؛ قال: أتحدى أيَّ جهاز مخابرات في العالم يقاوم أُناسًا يريدون أن يموتوا.
كلام في منتهى الدقة.
حقًّا من المستحيل أن تقاتل إنسانًا يريد أن يموت.
بم ستخيفه؟ هل ستقول له: سأقتلك؟
هذا هو ما يريده. بل هو خائف ألا يموت.
هل منا من يريد أن يموت؟!
يتمنى الموت؟!
يبحث عن الموت؟!
هل منا أحد جاهز للموت؟!
كتب وصيته؟!
يفكر في يوم يموت فيه في سبيل الله؟!
لو أنك لا تتمناها ولا تبحث عنها، فأنت لا تعرف الجنة.
هذا الكلام ليس كئيبًا، ولا حزينًا.
الكئيب فعلاً أن تقف يوم القيامة تنتظر الحساب يومًا واثنين، وسنة واثنتين، وأنت ترى الشهداء حولك يُسرِعون إلى الجنة من غير حساب.
ولا تقل: أين الجهاد؟ وأين القتال؟
المسألة مسألة صدق، ومسألة نيَّة.
تريد أم لا تريد؟
لو أردت ستنال الأجر، وتدخل الجنة وإن متَّ على فراشك.
"مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ"
ولو لم تُرِدْ فلن تنال أجر الشهادة، حتى لو فُتِحَ لك ألف باب للجهاد.
المسألة إنما هي صدق النية مع الله تعالى.