تقربت إليك بأحزاني النفس البشرية فيها خطوط متقابلة، وصفات متباينة.. الرضا والغضب، الحزن والفرح، الحب والكره.. والإنسان السوي هو الذي يضع كل صفة في موضعها الصحيح، فيغضب حين يتطلب الأمر الغضب، ويرضى في غير موضع الغضب.. وهكذا والحزن وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استعاذ منه؛ إلا أنه في بعض المواضع مطلوب، بشرط ألا يستهلك الحزن نفسية الإنسان، أو يقعده عن العمل النافع، أو يتجاوز به الحد المسموح به شرعا.
ذكر الإشبيلي في كتاب العاقبة.. ابتكار علي بن الفتح: " خرج يوم عيد الأضحى فرأى الناس يضحون بضحاياهم، وهو فقير لا دينار له، ورأس ماله علو الهمة، فانتحى جانباً قال: يا رب وأنا تقربت إليك بأحزاني!! ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حزن عندما كان الأمر يستدعي الحزن.. (( وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون))، ولما رأى ما حل بعمه حمزة - رضي الله عنه - تألمت نفسه، وتوجع فؤاده الشريف، ففي السيرة الحلبية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء نحو حمزة فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه، ومثل به فجدع أنفه وأذناه، وقطعت مذاكيره، فنظر - صلى الله عليه وسلم - إلى شيء لم ينظر إلى شيء أوجع لقلبه منه، وقال: (( لن أصاب بمثلك، ما وقفت موقفاً أغيظ لي من هذا)) وعندما حلَّ العذاب بالرعيل الأول من الصحب الكرام وأصابتهم اللأواء، وصب عليهم العذاب صبا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يملك لنفسه ولا لهم دفع العذاب، حزن عليهم؛ ولكن مع هذا شد من عزيمتهم، وبشرهم بأعظم بشارة يتمناها المؤمن، فقال لهم كما روى الحاكم في مستدركه عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِعَمَّارٍ وَأَهْلِهِ وَهُمْ يُعَذَّبُونَ، فَقَالَ: (( أَبْشِرُوا آلَ عَمَّارٍ، وَآلَ يَاسِرٍ، فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ)) قال الحكم: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ووافقه الذهبي وقال الألباني: حسن صحيح ووقع بعض أصحابه في أسر كفار قريش، فحرك أسرهم لواعج نفسه، فتوجه إلى ربه بالتضرع، روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: " لَمَّا رَفَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَأْسَهُ مِنْ الرَّكْعَةِ قَالَ: (( اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ. اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ))
درب سلكناه والرحمن غايتنا *** ما مسنا قط في لأوائه ندم
نمضي ونمضي وإن طال الطريق بنا *** وسال دمع على أطرافه
ودم يحلو العذاب وعين الله تلحظنا *** ويعذُب الموت والتشريد والألم
التقرب بالدموع: هل رأيت صورة أبلغ تعبيراً من صورة أولئك الصادقين الحزانى الذين لم يجدوا من المال ما يتقربون به إلى الله ليعلوا راية الحق في تجهيز جيش العسرة، أو راحلة يركبونها للخروج مع النبي ليحوزوا شرف الجهاد بالنفس، فتقربوا إلى الله بحزن مزجوه بدموع حارة.. قال الله - تعالى -: ( لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ) ( التوبة 91-92) والإنسان النبيل هو الذي يتألم ويحزن لمصاب إخوانه في العقيدة والدين في بلاد الشام خيرة الله من أرضه؛ حيث تسفك الدماء بغير حساب، ويعتقل الأحرار، وتستباح الأعراض، وتهدم الديار فوق رؤوس ساكنيها، وتدنس المساجد، وتسلب الأموال، وتنتهك جميع الحرمات مما لم نسمع ولم نر له مثيلا.. كل هذا وأكثر منه يجعل من الواجب التقرب إلى الله بالأحزان والدموع الحرَّى، لتكون دافعًا للنصرة والتصدي بكل قوة لردع أولئك القتلة الذين هم شر من الوحوش الكاسرة، وقطع شرورهم ودابرهم، فمن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، روى مسلم عَن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رضي الله عنه - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)) فالمؤمنون يرحم بعضهم بعضا بأخوة الإيمان، ويتشاركون في الآلام والأحزان، ويتعاطفون فيما بينهم ليكونوا أعوانا في كل أمورهم؛ وكأنهم جميعا قد اجتاحتهم خطر الحمى فأوقدت الحرارة في أجسامهم..الأمر الذي يستدعي التعاون والتعاضد، واستجلاب الأدوية النافعة لدرء خطر الحمى التي أصابت أهلنا في شامنا المبارك..فيا رب قد تقربنا إليك بأحزاننا
م/ن