روى الإمامان البخاري ومسلم - رحمهما الله - من حديث أنس وجابر - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) قالوا: يا رسول الله! هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: ((تأخذ على يديه)) [هذه رواية البخاري]، وفي رواية: قال: ((تحجزه عن الظلم؛ فإن ذلك نصره))، وعند مسلم من حديث جابر: ((إن كان ظالماً فلينهه؛ فإنه له نصره)).
اليوم ومع انتشار عموم الظلم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي على مستوى مؤسسة الأسرة والدولة وغيرها، والظلم الذي تمارسه قوى الاستكبار العالمي في احتلال الدول ونهب الثروات ومصادرة الحقوق والحريات...إلخ؛ فإنه تمسّ الحاجة للتأمل في حديثنا هذا، ودراسة لبيان المنهج والموقف الشرعي إزاء هذه المسألة الحساسة، وهذا من إدارة المجلة -جزاها الله خيراً-، ومن صاحب المقال -وفقه الله- نوع مشاركة في نصرة المظلومين ومنع الظالم عن ظلمه أيضاً.
وكما سيظهر أن في هذا الحديث الجليل الشريف جملة فوائد علمية ودعوية وتربوية، لعلي أوجزها في الآتي:
1- فيه حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تصحيح الأفكار والتصورات والمفاهيم لدى أصحابه والمسلمين، وحديثنا هذا مرتبط بالمفاهيم الأخلاقية والفكرية والسياسية والعقدية؛ لارتباطه بمواجهة الظلم والظالمين، كما هو متعلق بعقيدة الولاء والبراء، وحفظ حقوق الإسلام والأخوة.
2- حرص الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - على مجالسة النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلب العلم، والسؤال عما قد يشكل فهمه، وهو دليل على حرصهم على طلب الاقتناع العقلي وموافقة مقاصد الشرع، ولم يكونوا - كما يقول بعضهم - يأخذون النصوص باستسلام تام من غير إعمال للفكر والعقل والاجتهاد، بل كانوا يعلمون موافقة صريح المعقول الصحيح المنقول، وفهم الأحاديث على ضوء القرآن ومقاصد الشريعة.
3- حرص الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - على العمل بعد العلم، واستعداد نفوسهم الكريمة لتغيير المألوفات وتصحيح الأفكار والعادات الجاهلية، والتي قد تربوا عليها ورضعوها وشبّوا عليها، ومعلوم أن مخالفة المألوف شاق وعسير على النفوس، لكنهم أرغموها طاعة لله ولرسول.
4- فيه بيان كريم خلقه - صلى الله عليه وسلم -، وإنصافه لخصومه المشركين، حيث أقرهم على هذه الجملة الجاهلية، وكان أول من قال بها جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم فيما نقله ابن حجر - رحمه الله - عن المفضل الضبي في كتابه (الفاخر)، وهو منهج إسلامي أصيل، كما في قبوله - صلى الله عليه وسلم - الحق من إبليس في بيان فضل آية الكرسي، وقال - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة: "صدقك وهو كذوب"، وكذا قبوله قول الحبر اليهودي: "نعم القوم أنتم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد، أو ما شاء الله وحده".
5- مبدأ جاهلي لكن بمفهوم إسلامي: النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن أقرهم على هذا اللفظ، لكنه لم يقرهم على ما تضمنه من معنى جاهلي في مساندة القبيلة والعشيرة ولو بالباطل، وهو أسلوب تربوي كريم؛ لأن تصحيح المفهوم والمعنى أسهل بكثير لدى المخالف من تغيير أصل اللفظ عند من قد ألفه وتربى عليه، حيث لا يخفى -أحياناً- استعداد الناس للمعاداة فيه والقتال عليه، ولهذا يستحسن -أحياناً- مراعاة هذه النفسيات والتحديات والضغوطات وإقرار أهلها عند ذلك ما أمكن على الألفاظ إذا أمكن تفريغها من المعاني الباطلة والجاهلية؛ لأن العبرة بالمعنى لا باللفظ والمبنى، وإنما الألفاظ قوالب المعاني كما يقرره العلماء، ومنهم ابن تيمية وابن القيم - رحمهما الله -، وذلك في أحكام البيوع والنكاح والطلاق وغيرها.
وفي رأيي: أن من ذلك مصطلح (الديمقراطية) إذا اضطر له العاملون للإسلام للمشاركة في العمل السياسي والحكم ودفع الظلم والقهر عنهم، وذلك بفهمها على أساس تحكيم الشريعة، وعدم مخالفة الثوابت الإسلامية، والحد من استبداد الحاكم وقهره لشعبه وتفرده بالقرار والحكم؛ فيكون فهم هذا المصطلح لما تضمنته من أمور السياسة والإدارة والإجراءات المرتبطة بالمعاملات فحسب، وهو مبني على المصلحة، ومثله: قبول مصطلح حقوق الإنسان والطفل والمرأة ومفهوم الحرية ونحوها، شرط عدم مخالفة المضامين والضوابط الشرعية، إلا عند الإكراه والضرورات التي تبيح المحظورات، لكنها مقدرة بقدرها إذا كانت دفعاً لمفاسد أكبر.
6- الدعوة إلى ضرورة تحلي المسلم بالإيجابية والفاعلية والمبادرة الذاتية، بأن يكون حياً فاعلاً مؤثراً في محيطه ومجتمعه، يحرص على تصحيح الأوضاع الخاصة وإصلاحها وتغييرها خلافاً لكثير ممن اتصفوا بالسلبية الناتجة عن الهزيمة النفسية والإحباط واليأس والقنوط ممن يتذرعون باستعصاء الحل وعظم التحديات، أو السلبية الناتجة عن العقلية المثالية غير الواقعية التي تكتفي بالتنظير والتأصيل والنقد، وممارسة دور الوصاية على الدعوات والأفكار، من غير أن تحرك ساكناً أو تغير واقعاً.
7- منهج تربوي ووعظي كريم في تضمن الخطاب الدعوي للجانب العاطفي في استعطافها المدعوين وترقيق قلوبهم؛ لاستنهاضهم على نصرة قضايا إخوانهم المسلمين، وذلك من قوله: «انصر أخاك» ففيه تذكير المسلم بحقوق الأخوة الإسلامية، فلا يخذل أخاه؛ لأن أخاه كنفسه فخذلانه خذلان لنفسه اليوم، وجدير أن يخذل هو غداً، ومثل هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - بعد دفن الميت: «استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل»، وكما كان يقول إبراهيم - عليه السلام - لأبيه: يَا أَبَتِ، وكان كل نبي يقول لقومه: يَا قَوْمِ، وفيه استعطاف وترقق، فكأنه يقول: يا من تقومون لي وأقوم لهم، فيسوؤني ما يسوؤكم، ويسرني ما يسركم.
فاجتماع الخطاب الوعظي القلبي العاطفي مع الخطاب العملي العقلي مهم، وتفرده أحياناً -بحسب المخاطب والموضوع- مهم أيضاً