التذييل في القرآن الكريم لـمـاذا ؟؟؟!!!
من مظاهر انسجام النص القرآني وتماسك بنائه وإحكام بنيانه: تناسبُ أجزائه. ويدخل في هذا الباب كل المباحث اللغوية والنحوية والبلاغية التي تُعنى بالعلاقات الكبرى بين أجزاء النص القرآني، ومن هذا الباب ما يسمى بـ (التذييل)، فما المراد بـ (التذييل)، وما أنواعه، وما أمثلته من القرآن الكريم؟
تعريف (التذييل)
(التذييل) لغة مصدر (ذيَّل)، وهي جَعلُ الشيء ذيلاً للآخر. أما في اصطلاح البلاغيين، فقد عرفه الزركشي بقوله: "أن يُؤتى بعد تمام الكلام بكلام مستقل في معنى الأول؛ تحقيقاً لدلالة منطوق الأول، أو مفهومه؛ ليكون معه كالدليل؛ ليظهر المعنى عند من لا يفهم، ويَكْمُل عند من فهمه". ونحو هذا عرفه السيوطي فقال: "أن يأتي بجملة عقب جملة، والثانية تشتمل على المعنى الأول؛ لتأكيد منطوقه، أو مفهومه؛ ليظهر المعنى لمن لم يفهمه، ويتقرر عند من فهمه". وعرفه ابن أبي الأصبع بعبارة أوجز، فقال: "أن يُذيِّل المتكلم كلامه بجملة، يتحقق فيها ما قبلها من الكلام".
وحاصل هذه التعريفات أن (التذييل) تعقيب الجملة بجملة مشتملة على معناها، تتنـزل منـزلة الحجة على مضمون الجملة، وبذلك يحصل تأكيد معنى الجملة الأولى.
الغرض من (التذييل)
(التذييل) -كما يقول أهل البلاغة- ضَرْب من ضروب (الإطناب) من حيث اشتماله على تقرير معنى الجملة الأولى، ويزيد عليه بفائدة جديدة لها تعلق بفائدة الجملة الأولى. ومن هنا كان للتذييل في الكلام موقع جليل، ومكان شريف خطير؛ لأن المعنى يزداد به انشراحاً، والمقصد اتضاحاً. وقد قال بعض البلغاء: للبلاغة ثلاثة مواضع: الإشارة، والتذييل، والمساواة. ويُستعمل (التذييل) في المواطن الجامعة، والمواقف الحافلة؛ لأن تلك المواطن تجمع البطيء الفهم، والبعيد الذهن، والثاقب القريحة، والجيد الخاطر، فإذا تكررت الألفاظ على المعنى الواحد تأكد عند قوي الذهن، ووضح عند ضعيفه.
ومن أمثلة (التذييل) في النثر قول بعضهم: "قبول السعاية شر من السعاية؛ لأن السعاية إخبار ودلالة، والقبول إنفاذ وإجازة، وهل الدالُّ المخبر، مثل المجيز المنفذ؟"، فقوله: "وهل الدالُّ المخبر مثل المجيز المنفِّذ" تذييل ما تقدم من الكلام.
ومن أمثلة (التذييل) في الشعر قول الحُطيئة:
قوم هم الأنوف والأذناب غيرُهم ومن يقيس بأنف الناقة الذنبا
فاستوفى المعنى في الشطر الأول، وذيّل بالشطر الثاني.
وقد ذكر البلاغيون أن التذييل يأتي على قسمين: قسم لا يزيد على المعنى الأول، وإنما يؤتى به للتأكيد والتحقيق، وقسم يخرجه المتكلم مخرج المثل السائر؛ ليحقق به ما قبله. وقد اعتبر ابن عاشور هذا القسم أقوى وأبدع من القسم الأول؛ لما فيه من عموم الحكم.
ومما جاء في القرآن الكريم متضمناً القسمين معاً قوله تعالى: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله} (التوبة:111)، ففي هذه الآية الكريمة تذييلان: أحدهما: قوله تعالى: {وعدا عليه حقا}، فإن الكلام قد تمَّ قبل ذلك، ثم أتى سبحانه بتلك الجملة لتحقق ما قبلها. والثاني: قوله سبحانه: {ومن أوفى بعهده من الله}، فخرج هذا الكلام مخرج المثل السائر؛ لتحقيق ما تقدمه، فهو تذييل ثان للتذييل الأول.
(التذييل) في القرآن الكريم
وقع (التذييل) في القرآن بكثرة، وأكثر من نبَّه عليه من المفسرين الآلوسي وابن عاشور. وجاء في القرآن على ثلاثة أضرب: الأول: في ختام الآيات، وهو الأكثر. الثاني: أن يأتي آية برأسه، أن يأتي في وسط الآية. ونحن نذكر بعضاً من كلٍّ ضَرْب؛ ليتضح المراد، ولتستبين سبيل المؤمنين:
أولاً: التذييل في ختام الآية، ومن أمثلته:
- قوله تعالى: {ذلك جزيناهم بما كفروا}، ثم قال عز وجل: {وهل نجازي إلا الكفور} (سبأ:17)، أي: هل يجازى ذلك الجزاء الذي يستحقه الكفور إلا الكفور؛ فإن جعلنا (الجزاء) عاماً كان الثاني مفيداً فائدة زائدة.
- قوله سبحانه: {وقل جاء الحق وزهق الباطل}، ثم قال عز من قائل: {إن الباطل كان زهوقا} (الإسراء:81)، وهو (تذييل) للجملة التي قبله؛ لما فيه من عموم، يشمل كل باطل في كل زمان. وإذا كان هذا شأن الباطل كان الثبات والانتصار شأن الحق؛ لأنه ضد الباطل، فإذا انتفى الباطل ثبت الحق. وبهذا كانت الجملة (تذييلاً) لجميع ما تضمنته الجملة التي قبلها. والمعنى: ظهر الحق في هذه الأمة، وانقضى الباطل فيها، وذلك شأن الباطل فيما مضى من الشرائع، أنه لا ثبات له.
- قوله تعالى: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد}، ثم قال عز وجل: {أفإن مت فهم الخالدون} (الأنبياء:34)، وهذا تذييل للجملة قبلها بطريق الاستفهام، يفيد أن الخلود في هذا الحياة منفي عن كل مخلوق، فكل مخلوق مصيره إلى الفناء والزوال لا محالة.
- قوله سبحانه: {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم}، ثم قال عز من قائل: {ولا ينبئك مثل خبير} (فاطر:14)، وهو تذييل لما سبقه من أخبار؛ لتحقيق هذه الأخبار بأن المُخْبِرَ بها هو الخبير بها وبغيرها، ولا يخبرك أحد مثل ما يخبرك هو سبحانه وتعالى.
- قوله تعالى: {أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل}، ثم قال عز وجل: {ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل} (البقرة:108)، وهو تذييل للتحذير الماضي؛ للدلالة على أن المُحَذَّرَ منه كفرٌ، أو يفضي إلى الكفر؛ لأنه ينافي حرمة الرسول والثقة به وبحكم الله تعالى.
- قوله سبحانه: {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم}، ثم قال عز من قائل: {إن الله واسع عليم} (البقرة:115)، وهو تذييل لمدلول {ولله المشرق والمغرب} والمراد سعة ملكه، أو سعة تيسيره، والمقصود عظمة الله.
- قوله تعالى: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم}، ثم قال عز وجل: {إنه كان من المفسدين} (القصص:4)، وهو تذييل؛ لتأكيد معنى تمكن الإفساد من فرعون؛ ذلك أن فعله هذا اشتمل على مفاسد عظيمة.
- قوله سبحانه: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما}، ثم قال عز من قائل: {ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم} (البقرة:158)، فهذا تذييل لما أفادته الآية من الحث على السعي بين الصفا والمروة، والمقصد منه الإتيان بحكم كلي في أفعال الخيرات كلها من فرائض ونوافل.
- قوله سبحانه: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم}، ثم قال عز من قائل: {والله ذو فضل على المؤمنين}، (آل عمران:152)، وهو تذييل مقرِّر ومؤكد لمضمون ما قبله.
- قوله تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله}، ثم قال عز من قائل: {إن الله عليم بذات الصدور} (المائدة:7)، وهذا تذييل؛ للتحذير من إضمار المعاصي، ومن توهم أن الله لا يعلم إلا ما يبدو منهم.
- قوله سبحانه: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم}، ثم قال عز وجل: {والله غفور حليم} (البقرة:225)، الجملة تذييل للجملتين السابقتين، وفائدته الامتنان على المؤمنين، وشمول الإحسان لهم، ونفي المؤاخذة عنهم.
- قوله سبحانه: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا}، ثم قال عز وجل: {ومن أصدق من الله قيلا} (النساء:122)، تذييل للوعد، وتحقيق له، أي، هذا من وعد الله، ووعود الله وعود صدق؛ إذ لا أصدق من الله قيلاً.
- قوله تعالى: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح}، ثم قال عز من قائل: {إن الله لا يضيع أجر المحسنين} (التوبة:120)، وهو تذييل لما سبقه، يفيد عموم المحسنين.
ثانياً: التذييل في وسط الآية، والمثال عليه:
- قوله سبحانه: {واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم}، ثم قال عز وجل: {والفتنة أشد من القتل} (البقرة:191)، فالجملة الأخيرة جاءت في وسط الآية، وهي تذييل للجملة السابقة لها، يفيد عموم الخبر.
- قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله}، ثم قال عز من قائل: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} (البقرة:197)، فالجملة الأخيرة جاءت في وسط الآية، وهي تذييل للجملة السابقة لها، والآية لم تنته بعدُ.
- قوله سبحانه: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا * استكبارا في الأرض ومكر السيئ} (فاطر:42-43)، ثم قال عز وجل: {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}، وموقع هذه الجملة ومحملها على التذييل، يعم كل مكر وكل ماكر، وهي جملة وسطية، الكلام لم ينته عندها.
ثالثاً: التذييل بآية برأسها، والمثال عليه:
- قوله تعالى: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} (ص:86)، ثم قال في الآية التالية: {إن هو إلا ذكر للعالمين} (ص:87)، فهذه الآية تذييل لسابقتها، تفيد عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للعالمين.
- قوله عز وجل: {ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب} (فصلت:45)، ثم قال سبحانه: {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد} (فصلت:46)، فهذه الآية تذييل لسابقتها؛ لأن {من} في الموضعين مفيدة للعموم.
- قوله تعالى: {قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} (الزخرف:22)، ثم قال عز وجل في الآية التالية: {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير} (الزخرف:23)، تذييل، أي: فذلك شأن الأمم مع الرسل، كلما جاءهم رسول من عند الله يدعوهم إلى عبادة الله الواحد القهار، أعرضوا عنه، وتمسكوا بعبادة ما كان يعبدوا آباؤهم من الأوثان.
فكل ما تقدم من الأمثلة المتقدمة، بأضربها الثلاثة من (التذييل) لما قبله، بعد تمام المعنى، إما على سبيل التأكيد، وإما على سبيل التقعيد.
والمتأمل في الأمثلة المتقدمة المتضمنة لأسلوب التذييل يجد أن بين مضمون الآية ومضمون التذييل انسجاماً، وتآلفاً، وتناسباً؛ فلا تجد آية عقاب تذيَّل بآية رحمة، والعكس صحيح، فإن البيان القرآني بأسلوبه ومضمونه يتجه نحو رعاية مطالب المعنى، وهو في الوقت نفسه يحرص على رعاية المبنى.