(وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل) (60) (المائدة).
هذا النص القرآني الكريم جاء في منتصف سورة المائدة، وهي سورة مدنية، آياتها مائة وعشرون بعد البسملة، وهي من طوال سور القرآن الكريم، ومن أواخرها نزولاً، وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى المائدة التي أنزلها الله - تعالى -من السماء كرامة لعبده ورسوله المسيح عيسى ابن مريم - عليهما السلام -.
ويدور المحور الرئيس لسورة المائدة حول التشريع الإسلامي، الذي أنزله ربنا- تبارك وتعالى -من فوق سبع سماوات من أجل إقامة الدولة الإسلامية، وتنظيم مجتمعاتها على أساس من الأخوة الإنسانية المؤمنة بوحدانية الخالق - سبحانه وتعالى -، وبوحدة رسالة السماء التي أكملها ربنا تبارك اسمه في القرآن الكريم، وفي سنة خاتم الأنبياء والمرسلين - صلى الله عليه وسلم -، وتعهد بحفظها إلى يوم الدين فحفظت حفظاً كاملاً على مدى الأربعة عشر قرناً الماضية:كلمة كلمة، وحرفاً حرفاً، في نفس لغة وحيها اللغة العربية، بينما تعرضت كل صور الوحي السابقة إلى الضياع التام، وعاش أتباع بعضها على ذكريات نقلت شفاهة عبر عدة قرون حتى تمت صياغتها صياغة بشرية، بكل ما للبشر من النقص والبعد عن الكمال، ولذلك مازالت تتعرض للحذف والإضافة، والمراجعة تلو المراجعة، وإلى التحرير بعد التحرير، والتغيير بعد التغيير إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله - تعالى -الأرض ومن عليها، ومن هنا كانت مراجعة كل من القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة لكل مؤمن بالله، وبالبعث، والحساب، وبالجنة والنار، وبالخلود في الحياة الآخرة.
وهذا التشريع الإلهي المنزل من السماء يؤكد حق الله - سبحانه وتعالى - في التشريع لعباده، لاتصافه - سبحانه - بالحاكمية المطلقة فوق جميع خلقه بغير شريك، ولا شبيه، ولا منازع، ولا صاحبة، ولا ولد. ومن هنا كان أول بنود هذا التشريع هو عقد الإيمان بالله رباً، وبالإسلام دينًا، وبسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً ورسولا.
وهذا العقد هو القاعدة التي تقوم عليها سائر العقود في حياة المسلمين أفراداً وجماعات، ومن هنا نصت السورة الكريمة على الوفاء بالعقود بكل صورها، وأشكالها، لأن الوفاء بها يعتبر وفاءً لله (تعالى) الذي أنزل أوامره بها.
ويتخلل آيات التشريع في سورة المائدة، التأكيد على سمو العقيدة الإسلامية القائمة على التوحيد الخالص لله - تعالى -، وتنزيهه عن جميع صفات خلقه، وعن كل وصف لا يليق بجلاله، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله، بغير تمييز ولا تفريق، واليقين بالأخوة الإنسانية، وبالآخرة وما فيها من البعث والحساب والجنة والنار، والخلود في أي منهما كل حسب عمله وحسب رحمة الله - تعالى -به.
وتستعرض سورة "المائدة" قصص عدد من السابقين من أجل استخلاص الدروس والعبر، وتأمر المؤمنين بأن يكونوا (قوامين لله شهداء بالقسط) وتبشرهم بالمغفرة والأجر العظيم، وتتهدد الكفار والمشركين الذين كذبوا بآيات الله وتنكروا لرسالته الخاتمة بأن مصيرهم إلى الجحيم.
تعرض "سورة المائدة" لعقائد الكفار والمشركين، وترد عليها، وقد نسبوا إلى الله - تعالى -من الأوصاف والنعوت ما لا يليق بجلاله، ونقضوا العهود والمواثيق وتنادي عليهم السورة الكريمة بنداءات تتكرر أكثر من مرة وذلك من مثل قول الحق- تبارك وتعالى -: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على" فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على" كل شيء قدير)19 (المائدة).
ثم تعرض السورة الكريمة لعدد من الأحكام المتعلقة بحماية النفس، والمال، والملكيات الفردية، والمجتمعات الإنسانية، وبصيانتها من كل انحراف، وتؤكد قضية الولاء والبراء، وتدعو إلى تعظيم كل من الكعبة المشرفة، والأشهر الحرم، وإلى إنكار كل ما بقي من تقاليد الجاهلية (وما أكثرها في زماننا).
وتختتم "سورة المائدة" بالتذكير بيوم القيامة، وبالإشارة إلى عدد من المعجزات التي أجراها ربنا - تبارك وتعالى- على أيدي عبده ورسوله المسيح عيسي ابن مريم، ومنها إنزال المائدة التي سميت السورة باسمها، وانتهت السورة الكريمة إلى تبرئة كلٍّ من السيد المسيح وأمه الصديقة مريم ابنة عمران من فرية ادعاء ألوهيتهما، وكلاهما من عباد الله الصالحين، والله واحد أحد، لا شريك له في ملكه، ولا منازع له في سلطانه، ولا شبيه له من خلقه، وهو - سبحانه وتعالى - منزه عن الصاحبة والولد.
م/ن