لقد منَّ الله على الإنسان بنعمة كبيرة هي صحة الأبدان، فيها وحدها من النعم ما لا تستطيع نفس بشرية أن تدركه، وكلما أوغل علم الطب في أبحاثه واكتشافاته، أدرك أن قيمة هذه النعمة هي فوق تصورات البشر.
يقول تعالى في سورة التغابن: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ *} [التغابن: 3] ، وفي سورة الذاريات: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} [الذاريات: 21] . في هذه الآيات، كما في الكثير غيرها، يذكرنا المولى عز وجل، بعظيم خلقه للإنسان، هذا المخلوق العجيب الذي يحتوي على آلاف المليارات من الجزئيات الصغيرة التي تعمل كلها وتتكامل فيما بينها، وتتناسق في أدائها حتى تؤلف وحدة متكاملة. هذه الجزئيات تتغذى وتنمو وتحافظ على قدراتها ليتمتع الإنسان بها، من خلال جهاز هضمي دقيق يؤمِّن امتصاص الغذاء اللازم من الأطعمة التي يتناولها الإنسان، ويقوم بتحويل اللازم من هذا الغذاء بواسطة الدم لكل جزئية صغيرة في الجسم. فالعين تأخذ من الغذاء ما يلزمها، والأذن كذلك، والقلب والدم وهكذا دواليك. ومن يتأمل في الرأس وحده دون سائر الجسم، يجد فيه غدداً مختلفة تفرز أربعة أنواع من السوائل:سائل عذب في الفم، يسوغ به الطعام والشراب، وسائل آخر لزج في الأنف ليمنع الغبار عند التنفس، وثالث مالح في العينين يمنعهما من اليبس، ورابع مرٌّ لزج في الأذنين يحميهما من الحشرات. نظام عجيب جداً في تكامله. ولا يدرك الإنسان أهمية هذه النعمة وعظمتها وعظمة ما فيها إلا إذا افتقد جزئية صغيرة جداً منها.
مثلاً، لقد وهبنا الله في الجسم خمس حواس، هي النظر والسمع والشم واللمس والذوق، ويشترك في كل حاسة من هذه الحواس جهاز كامل فيه عدد كبير جداً من الجزئيات الصغيرة التي تنقل الإشارات إلى الدماغ الذي يعطي الأمر المناسب، فمثلاً جهاز العين هو الأساس في حاسة النظر، وكما يقول العلماء: في شبكة العين عشر طبقات فيها مئة وأربعون مليون خلية متقبلة للضوء، ويخرج من العين إلى الدماغ عصب بصري يحتوي على خمسمائة ألف ليف عصبي، وعندما تتعرض العين إلى نور قوي جداً، أو إلى غبار شديد، نرى الأجفان تطبق على الحدقة في العين لحمايتها. أي أن الله تعالى وهبنا نعمة البصر، وفي الجهاز الذي يقوم بها عدد كبير من الجزئيات، كما وهبنا أيضاً جهاز الحماية لها. وبالإضافة إلى الأجفان، هناك الأهداب وإفرازات العين والدمع وغير ذلك، مما يدركه علماء طب العيون، وكذلك باقي الحواس.
وإذا كان في كل طرفة عين نعم كثيرة؛ «ففي كل نفس ينبسط وينقبض نعمتان، إذ بانبساطه يخرج الدخان المحترق من القلب، ولو لم يخرج لهلك، وبانقباضه يجمع روح الهواء إلى القلب، ولو سد متنفسه لاحترق قلبه بانقطاع روح الهواء وبرودته عنه وهلك. في اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة، وفي كل ساعة قريب من ألف نفس، وكل نفس قريب من عشر لحظات، فعليك في كل لحظة آلاف آلاف النعم في كل جزء من أجزاء بدنك، بل في كل جزء من أجزاء العالم، فانظر هل يتصور إحصاء ذلك أم لا؟ لما انكشف لموسى عليه السلام حقيقة قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] قال: «إلهي: كيف لا أشكرك ولك في كل شعرة من جسدي نعمتان: أن لينت أصلها، وأن طمست رأسها؟». وكذا ورد في الأثر: «أن من لم يعرف نعم الله إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه»(288).
وكذلك باقي النعم التي أنعم الله بها علينا في هذا الجسم العجائبي، فالأُذُنُ مؤلفة من ثلاثة أجزاء لكل منها دوره وهي تعمل بمنتهى الدقة. فالأذن الخارجية تجمع الإشارات الصوتية غير المرئية وتنقلها إلى الأذن الوسطى عبر غشاء الطبلة (للحماية من الأوساخ)، ومن الأذن الوسطى إلى الداخل حيث الأعصاب التي تنقلها إلى الدماغ. يقول علماء الطب إن في الأذن ثلاثين ألف خلية سمعية لنقل أدق الأصوات، وفي الدماغ جهاز يقيس التفاضل الزمني لوصول الصوت إلى الأذنين، وهذا التفاضل يقل عن جزء من ألف وستمائة جزء من الثانية، وهو يكشف للإنسان جهة الصوت.
يقول تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *} [النحل: 78] ، وفي سورة المؤمنون: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ *} [المؤمنون: 78].
وكما الأمر بالنسبة إلى باقي الحواس، فإنه كذلك بالنسبة إلى الجهاز الهضمي بدءاً من الفم. فالخلايا التي في الجدار الداخلي للفم تتجدد كل خمس دقائق، ويبلغ تعدادها حوالي خمسمائة خلية، بالإضافة إلى عدد من الغدد التي تفرز اللعاب ليمتزج بما يمضغه الإنسان من الطعام تحضيراً لعملية الهضم، ليصل إلى المعدة عبر المريء، وفي جدار المعدة ما يقارب المليار خلية تفرز من حمض كلور الماء ما يزيد على عدة ليترات في اليوم، لتؤمن عملية الهضم الكامل، ولتساعد على امتصاص الجسم لما يلزمه من الغذاء لتجديد مجموع الخلايا التي في الجسم، والتي لا عد لها ولا حصر. ويساعد في ذلك الكبد والبنكرياس والأمعاء والكليتان التي بدورها تسهل خروج فضلات الطعام إلى الخارج. وبالإضافة إلى امتصاص الجسم لما يلزمه من الغذاء؛ فإنه يمده أيضاً بالقوة اللازمة والطاقة الضرورية للحركة.
أما الدورة الدموية ففي كل جزئية منها، إعجاز إلهي، ونعمة تفوق الوصف، فالقلب مثلاً هو مضخة الدم في العروق، ينبض في الدقيقة الواحدة من ستين إلى ثمانين خفقة، أي أنه ينبض في اليوم مئة ألف مرة، يضخ خلالها ثمانية آلاف ليتر من الدم، أي ما يعادل أربعين برميلاً يومياً، وهكذا العمل طوال عمر الإنسان، وتتشعب العروق في الجسم حتى تصبح دقيقة مثل الشعرة، بل وأدق منها، يجري فيها الدم في دورة كاملة، مع تنقية وتصفية في الرئتين(289).
وكذلك عمل الهيكل العظمي وما فيه من مفاصل تسمح بالحركة في مختلف الاتجاهات. وعمل الجهاز العصبي، وارتباطه بالدماغ ليرسل الإشارات وليتلقى الأوامر. وعمل الجهاز التنفسي، والجهاز التناسلي، ووظائف الجلد، وغير ذلك من الأعضاء والجزئيات، التي لم يستطع ولن يستطيع الإنسان أن يستكمل وصفها، وطريقة عملها، وعناصر التغذية فيها، والحماية لها، والتناسق فيما بينها: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ *} [التين: 4].
يروى أنه لما مرض عبد الملك بن مروان، كان الناس يسمعونه من وراء الحجرة في مرضه، وهو يردد: «يا أهل النعم لا تستقلوا شيئاً من النعم مع العافية»، أي أن نعمة الصحة تسبق غيرها من النعم الخاصة الأخرى التي أنعم الله بها علينا، ولا يدركها إلا من كان به سقم.
سمع أحد الحكماء رجلاً يدعو ربه يقول: «اللهم أسألك العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة»، فقال له: «لقد سألت الله كل شيء».
كما يروى أنه يؤتى يوم القيامة برجل صالح، عَبَدَ الله كثيراً، وفعل الخيرات، فيقول رب العزة أدخلوا فلاناً برحمتي إلى الجنة. فيتساءل الرجل: ولماذا برحمتك يا رب، وقد عبدتُك كثيراً، وفعلت الخيرات. فيقول الله: «ضعوا أعمال عبدي في كفة، ونعمة البصر في كفة، فترجح نعمة البصر...».
ومن نعمة الله علينا أن نبهنا إلى الاعتناء بنعمة الصحة. وسخر لنا لذلك كل شيء، من الغذاء والماء والهواء والشمس والقمر والليل والنهار وغيرها، وضرب لنا مثلاً بالغذاء فقال: { كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } [طه: 81] ، أي أن الإكثار من أكل الطيبات أي الغذاء يؤدي إلى المرض وإلى غضب الله، لأنه يصبح كفراً بنعمة الصحة التي وهبنا الله إياها وأمر بالاعتناء بها. وكذلك نعمة الشمس وتعرض الجسم لها، فهي تساعد على مناعة الجسم ضد الأمراض، أما الإسراف فيها فيعرّض الجسم للإصابة بضربة الشمس. وكذلك تعاقب الليل والنهار، وحاجة الجسم إلى كل منهما.
ومن نعمة الله علينا تحريم الأمور التي تضر بالصحة كشرب الخمر، وأكل لحم الخنـزير والميتة وغير ذلك مما نص عليه الشرع الحنيف. فالخمرة تؤدي إلى اختلال كبير في وظائف الجهاز العصبي، وإلى ضعف التركيز والذاكرة وفقدان الشهية للطعام، والتهابات وتقرحات في المعدة، وتليّف الكبد، كما أن التسمم الكحولي يؤدي إلى الوفاة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى لحم الخنـزير والميتة، الذي أثبتت العلوم الحديثة وجود ميكروبات فيه تضر بالصحة البشرية، مهما تفنن العالم في طبخ اللحم وتقديمه.
ولا تقتصر نعمة الله على صحة الفرد وحده بل تتعداها إلى نعمة الصحة في الأفراد المحيطين به، ممن يعول ومن المقربين. فكم من الناس الذين أنعم الله عليهم بثروات كبيرة أو بعلم وفير، أو سلطان عظيم، وابتلاهم بولد مريض ومرضه عضال يستعصي على الأطباء وعلى العلاج، فهم مستعدون للتنازل عن ثرواتهم وسلطانهم مقابل شفائه.
م/ن