فصل في كيده للإنسان بالوسوسة
ومن كيده الذي بلغ الجهال ما بلغ : الوسواس الذي كادهم به في أمر الطهارة والصلاة عند عقد النية، حتى ألقاهم في الآصار والأغلال ، وأخرجهم عن اتباع سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وخيل إلى أحدهم أن ما جاءت به السنة لا يكفي حتى يضم إليه غيره ، فجمع لهم بين هذا الظن الفاسد، والتعب الحاضر، وبطلان الأجر أو تنقيصه .
ولا ريب أن الشيطان هو الداعي إلى الوسواس : فأهله قد أطاعوا الشيطان ، ولبوا دعوته ، واتبعوا أمره ، ورغبوا عن اتباع سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وطريقته ، حتى أن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، أو اغتسل كاغتساله ، لم يطهر ولم يرتفع حدثه . ولولا العذر بالجهل لكان هذا مشاقة للرسول ، فقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتوضأ بالمد ، وهو قريب من ثلث رطل بالدمشقي ، ويغتسل بالصاع وهو نحو رطل وثلث ، والموسوس يرى أن ذلك القدر لا يكفيه لغسل يديه ، وصح عنه عليه السلام أنه توضأ مرة مرة ، ولم يزد على ثلاث ، بل أخبر أن : " من زاد عليها فقد أساء وتعدى وظلم " فالموسوس مسيء متعد ظالم بشهادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فكيف يتقرب إلى الله بما هو مسيء به متعد فيه لحدوده ؟ .
" وصح عنه أنه كان يغتسل هو وعائشة رضي الله عنها من قصعة بينهما فيها أثر العجين " ، ولو رأى الموسوس من يفعل هذا لأنكر عليه غاية الإنكار، وقال : ما يكفي هذا القدر لغسل اثنين ؟ كيف والعجين يحلله الماء فيغيره ؟ هذا والرشاش ينزل في الماء فينجسه عند بعضهم ، ويفسده عند آخرين ، فلا تصح به الطهارة ، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل ذلك مع غير عائشة ، مثل ميمونة وأم سلمة، وهذا كله في الصحيح .
وثبت أيضا في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال : كان الرجال والنساء على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتوضئون من إناء واحد والآنية التي كان عليه السلام وأزواجه وأصحابه ونساؤهم يغتسلون منها لم تكن من كبار الآنية ولا كانت لها مادة تمدها، كأنبوب الحمام ونحوه ، ولم يكونوا يراعون فيضانها حتى يجري الماء من حافاتها ، كما يراعيه جهال الناس ممن بلي بالوسواس في جرن الحمام .
فهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي من رغب عنه فقد رغب عن سنته ، جواز الاغتسال من الحياض والآنية ، وإن كانت ناقصة غير فائضة، ومن انتظر الحوض حتى يفيض ثم استعمله وحده ولم يمكن أحدا أن يشاركه في استعماله فهو مبتدع مخالف للشريعة .
قال شيخنا : ويستحق التعزير البليغ الذي يزجره وأمثاله عن أن يشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله ، ويعبدوا الله بالبدع بالاتباع .
ودلت هذه السنن الصحيحة على أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يكثرون صب الماء، ومضى على هذا التابعون لهم بإحسان .
قال سعيد بن المسيب : إني لأستنجي من كوز الحب وأتوضأ وأفضل منه لأهلي .
وقال الإمام أحمد : من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء .
وقال المروزي : وضأت أبا عبد الله بالعسكر، فسترته من الناس لئلا يقولوا إنه لا يحسن الوضوء لقلة صبه الماء .
وكان أحمد يتوضأ فلا يكاد يبل الثرى .
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح : " أنه توضأ من إناء فأدخل يده فيه ثم تمضمض واستنشق " وكذلك كان في غسله يدخل يده في الإناء ، يتناول الماء منه، والموسوس لا يجوز ذلك ، ولعله أن يحكم بنجاسة الماء ويسلبه طهوريته بذلك .
وبالجملة فلا تطاوعه نفسه لاتباع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن يأتي بمثل ما أتى بل أبدا، وكيف يطاوع الموسوس نفسه أن يغتسل هو وامرأته من إناء واحد قدر الفرق قريبا من خمسة أرطال بالدمشقي ، يغمسان أيديهما فيه ، ويفرغان عليهما ؟ فالموسوس يشمئز من ذلك كما يشمئز المشرك إذا ذكر الله وحده .
قال أصحاب الوسواس : إنما حملنا على ذلك الاحتياط لديننا ، والعمل بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " وقوله : " من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه " وقوله : " الإثم ما حاك في الصدر " .
وقال بعض السلف : الإثم حور القلوب، وقد وجد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تمرة فقال : " لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها " أفلا يرى أنه ترك أكلها احتياطا ؟ .
وقد أفتى مالك رحمه الله فيمن طلق امرأته وشك : هل هي واحدة أم ثلاث : بأنها ثلاث ، احتياطا للفروج .
وأفتى من حلف بالطلاق : إن في هذه اللوزة حبتين، وهو لا يعلم ذلك ، فبان الأمر كما حلف عليه : أنه حانث ، لأنه حلف على مالا يعلم .
وقال فيمن طلق واحدة من نسائه ثم أنسيها : يطلق عليه جميع نسائه احتياطا ، وقطعا للشك .
وقال أصحاب مالك فيمن حلف بيمين ثم نسيها : أنه يلزمه جميع ما يحلف به عادة ، فيلزمه الطلاق، والعتاق، والصدقة بثلث المال، وكفارة الظهار، وكفارة اليمين بالله تعالى ، والحج ماشيا ، ويقع الطلاق في جميع نسائه ، ويعتق عليه جميع عبيده وإمائه . وهذا أحد القولين عندهم .
ومذهب مالك أيضا : أنه إذا حلف ليفعلن كذا : أنه على حنث حتى يفعله، فيحال بينه وبين امرأته .
ومذهبه أيضا : أنه إذا قال إذا جاء رأس الحول فأنت طالق ثلاثا : أنها تطلق في الحال . وهذا كله احتياط .
وقال الفقهاء : من خفي عليه موضع النجاسة من الثوب وجب عليه غسله كله .
وقالوا : إذا كان معه ثياب طاهرة وتنجس منها ثياب، وشك فيها ، صلى في ثوب بعد ثوب ، بعدد النجس ، وزاد صلاة لتيقن براءة ذمته .
وقالوا : إذا اشتبهت الأواني الطاهرة بالنجسة أراق الجميع وتيمم، وكذلك إذا اشتبهت عليه القبلة ، فلا يدري في أي جهة ، فإنه يصلي أربع صلوات عند بعض الأئمة ، لتبرأ ذمته بيقين .
وقالوا : من ترك صلاة من يوم ثم نسيها وجب عليه أن يصلي خمس صلوات .
وقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام من شك في صلاته أن يبني على اليقين .
وحرم أكل الصيد إذا شك صاحبه هل مات بسهمه أو بغيره ، كما إذا وقع في الماء .
وحرم أكله إذا خالط كلبه كلبا آخر، للشك في تسمية صاحبه عليه . وهذا باب يطول تتبعه .
فالاحتياط والأخذ باليقين غير مستنكر في الشرع ، وإن سميتموه وسواسا .
وقد كان عبدالله بن عمر يغسل داخل عينيه في الطهارة، حتى عمي .
وكان أبو هريرة إذا توضأ أشرع في العضد ، وإذا غسل رجليه أشرع في الساقين .
فنحن إذا احتطنا لأنفسنا وأخذنا باليقين وتركنا ما يريب إلى مالا بريب ، وتركنا المشكوك فيه للمتيقن المعلوم ، وتجنبنا محل الاشتباه ، لم نكن بذلك عن الشريعة خارجين ، ولا في البدعة والجين ، وهل هذا إلا خير من التسهيل والاسترسال ؟ حتى لا يبالي العبد بدينه، ولا يحتاط له ، بل يسهل الأشياء ويمشي حالها ، ولا يبالي كيف توضأ ؟ ولا بأي ماء توضأ ؟ ولا بأي مكان صلى ؟ ولا يبالي ما أصاب ذيله وثوبه ، ولا يسأل عما عهد بل يتغافل ، ويحسن ظنه ، فهو مهمل لدينه لا يبالي ما شك فيه . ويحمل الأمور على الطهارة ، وربما كانت أفحش النجاسة، ويدخل بالشك ويخرج بالشك . فأين هذا ممن استقصى في فعل ما أمر به ، واجتهد فيه ، حتى لا يخل بشيء منه ، وإن زاد على المأمور فإنما قصده بالزيادة تكميل المأمور ، وأن لا ينقص منه شيئا ؟ .
قالوا : وجماع ما ينكرونه علينا احتياط في فعل مأمور، أو احتياط في اجتناب محظور . وذلك خير وأحسن عاقبة من التهاون بهذين، فإنه يفضي غالبا إلى النقص من الواجب، والدخول في المحرم ، وإذا وازنا بين هذه المفسدة ومفسدة الوسواس كانت مفسدة الوسواس أخف، هذا إن ساعدناكم على تسميته وسواسا ، وإنما نسميه احتياطا واستظهارا ، فلستم بأسعد منا بالسنة ، ونحن حولها ندندن ، وتكميلها نريد .
وقال أهل الاقتصاد والاتباع : قال الله تعالى : " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر" ، وقال تعالى : " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " ، وقال تعالى : " واتبعوه لعلكم تهتدون " ، وقال تعالى : " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون " .
وهذا الصراط المستقيم الذي وصانا باتباعه هو الصراط الذي كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهو قصد السبيل ، وما خرج عنه فهو من السبل الجائرة ، وإن قاله من قاله ، لكن الجور قد يكون جورا عظيما عن الصراط ، وقد يكون يسيرا ، وبين ذلك مراتب لا يحصيها إلا الله وهذا كالطريق الحسي ، فإن السالك قد يعدل عنه ويجور جورا فاحشا ، وقد يجور دون ذلك ، فالميزان الذي يعرف به الاستقامة على الطريق والجور عنه هو ما كان رسول الله وأصحابه عليه، والجائر عنه إما مفرط ظالم ، أو مجتهد متأول ، أو مقلد جاهل . فمنهم المستحق للعقوبة، ومنهم المغفور له ، ومنهم المأجور أجرا واحدا ، بحسب نياتهم ومقاصدهم واجتهادهم في طاعة الله تعالى ورسوله ، أو تفريطهم .
ونحن نسوق من هدى رسول الله وهدى أصحابه ما يبين أي الفريقين أولى باتباعه ، ثم نجيب عما احتجوا به بعون الله وتوفيقه .
ونقدم قبل ذلك ذكر النهي عن الغلو ، وتعدي الحدود، والإسراف وإن الاقتصاد والاعتصام بالسنة عليهما مدار الدين .
قال الله تعالى : " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم " وقال تعالى : " ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين " وقال تعالى : " تلك حدود الله فلا تعتدوها " وقال تعالى : " ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " وقال تعالى : " ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين " .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم - غداة العقبة وهو على ناقته :- " القط لي حصا . فلقطت له سبع حصيات من حصا الخذف ، فجعل ينفضهن في كفة ويقول : أمثال هؤلاء فارموا ، ثم قال : أيها الناس . إياكم والغلو في الدين . فإنما أهلك الذين من قبلكم الغلو في الدين " رواه الإمام أحمد والنسائي .
وقال أنس رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : " لاتشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم . فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات: رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " .
فنهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التشديد في الدين ، وذلك بالزيادة على المشروع وأخبر، أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه، إما بالقدر، وإما بالشرع .
فالتشديد بالشرع : كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل ، فيلزمه الوفاء به ، وبالقدر كفعل أهل الوسواس . فإنهم شددوا على أنفسهم فشدد عليهم القدر ، حتى استحكم ذلك وصار صفة لازمة لهم .
قال البخاري : وكره أهل العلم الإسراف فيه - يعني الوضوء - وأن يجاوزوا فعل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقال ابن عمر رضي الله عنهما : إسباغ الوضوء : الإتقاء .
فالفقه كل الفقه الاقتصاد في الدين ، والاعتصام بالسنة .
قال أبي بن كعب : عليكم بالسبيل والسنة ، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله عز وجل فاقشعر جلده من خشية الله تعالى إلا تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها ، وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا إذا كانت أعمالكم اقتصادا أن تكون على منهاج الأنبياء وسنتهم .
قال الشيخ أبو محمد المقدسي في كتابه ذم الوسواس :
الحمد لله الذي هدانا بنعمته ، وشرفنا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم برسالته ، ووفقنا للاقتداء به والتمسك بسنته، ومن علينا باتباعه الذي جعله علما على محبته ومغفرته ، وسببا لكتابة رحمته وحصول هدايته ، فقال سبحانه : " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم " ، وقال تعالى : " ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبي الأمي " ثم قال : "فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون " .
أما بعد : فإن الله سبحانه جعل الشيطان عدوا للإنسان، يقعد له الصراط المستقيم ، ويأتيه من كل جهة وسبيل ، كما أخبر الله تعالى عنه أنه قال : " لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين " ، وحذرنا الله عز وجل من متابعته ، وأمرنا بمعاداته ومخالفته ، فقال سبحانه : " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا " ، وقال : " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة " ، وأخبرنا بما صنع بأبوينا تحذيرا لنا من طاعته ، وقطعا للعذر في متابعته ، وأمرنا الله سبحانه وتعالى بإتباع صراطه المستقيم ونهانا عن إتباع السبل ، فقال سبحانه : " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " ، وسبيل الله وصراطه المستقيم : هو الذي كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وصحابته ، بدليل قوله عز وجل : " يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين * على صراط مستقيم " ، وقال : " إنك لعلى هدى مستقيم " وقال : " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " فمن اتبع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في قوله وفعله فهو على صراط الله المستقيم ، وهو ممن يحبه الله ويغفر له ذنوبه ، ومن خالفه في قوله أو فعله فهو مبتدع ، متبع لسبيل الشيطان غير داخل فبمن وعد الله بالجنة والمغفرة والإحسان .
فصل في ذم الموسوسين
ثم إن طائفة الموسوسين قد تحقق منهم طاعة الشيطان ، حتى اتصفوا بوسوسته ، وقبلوا قوله ، وأطاعوه ، ورغبوا عن اتباع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وصحابته ، حق أن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله عليه الصلاة والسلام ، أو صلى كصلاته ، فوضوءه باطل ، وصلاته غير صحيحة . ويرى أنه إذا فعل مثل فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام في مواكلة الصبيان، وأكل طعام عامة المسلمين ، أنه قد صار نجسا ، يجب عليه تسبيع يده وفمه ، كما لو ولغ فيهما كلب أو بال عليهما هر .
ثم إنه بلغ من استيلاء إبليس عليهم أنهم أجابوه إلى ما يشبه الجنون، ويقارب مذهب السوفسطائية الذين ينكرون حقائق الموجودات، والأمور المحسوسات ، وعلم الإنسان بحال نفسه من الأمور الضروريات اليقينيات ، وهؤلاء يغسل أحدهم عضوه غسلا يشاهده ببصره ويكبر، ويقرأ بلسانه ، بحيث تسمعه أذناه ، ويعلمه بقلبه ، بل يعلمه غيره منه ويتيقنه ، ثم يشك : هل فعل ذلك أم لا ؟ وكذلك يشككه الشيطان في نيته وقصده التي يعلمها من نفسه يقينا ، بل يعلمها غيره منه بقرائن أحواله . ومع هذا يقبل قول إبليس في أنه مانوى الصلاة ، ولا أرادها ، مكابرة منه لعيانه ، وجحدا ليقين نفسه ، حتى تراه متلددا متحيرا : كأنه يعالج شيئا يجتذبه ، أو يجد شيئا في باطنه يستخرجه . كل ذلك مبالغة في طاعة إبليس، وقبول وسوسته ، ومن انتهت طاعته لإبليس إلى هذا الحد فقد بلغ النهاية في طاعته .
ثم إنه يقبل قوله في تعذيب نفسه ويطيعه في الإضرار بجسده، تارة بالغوص في الماء البارد ، وتارة بكثرة استعماله وإطالة العرك ، وربما فتح عينيه في الماء البارد ، وغسل داخلهما حتى يضر ببصره، وربما أفضى إلى كشف عورته للناس ، وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان ويستهزىء به من يراه .
قلت : ذكر أبو الفرج ابن الجوزي عن أبي الوفاء ابن عقيل : أن رجلا قال له : أنغمس في الماء مرارا كثيرة وأشك : هل صح [لي] الغسل أم لا ، فما ترى في ذلك ؟ فقال له الشيخ : اذهب ، فقد سقطت عنك الصلاة . قال : وكيف ؟ قال : لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : " رفع القلم عن ثلاثة : المجنون حتى يفيق ، والنائم حتى يستيقظ ، والصبي حتى يبلغ " ومن ينغمس في الماء مرارا ويشك هل أصابه الماء أم لا ، فهو مجنون .
قال : وربما شغله بوسواسه حتى تفوته الجماعة، وربما فاته الوقت ويشغله بوسوسته في النية حق تفوته التكبيرة الأولى، وربما فوت عليه ركعة أوأكثر، ومنهم من يحلف أنه لا يزيد على هذا ، ثم يكذب .
قلت : وحكى لي من أثق به عن موسوس عظيم رأيته أنا يكرر عقد النية مرارا عديدة فيشق على المأمومين مشقة كبيرة ، فعرض له أن حلف بالطلاق أنه لا يزيد على تلك المرة ، فلم يدعه إبليس حتى زاد ، ففرق بينه وبين امرأته ، فأصابه لذلك غم شديد ، وأقاما متفرقين دهرا طويلا ، حتى تزوجت ، تلك المرأة برجل آخر، وجاءه منها ولد ، ثم إنه حنث في يمين حلفها ففرقا بينهما وردت إلى الأول بعد أن كاد يتلف لمفارقتها .
وبلغني عن آخر أنه كان شديد التنطع في التلفظ بالنية والتقعر في ذلك ، فاشتد به التنطع والتقعر يوما إلى أن قال : أصلي، أصلي ، مرارا ، صلاة كذا وكذا . وأراد أن يقول : أداء ، فأعجم الدال ، وقال : أذاء لله . فقطع الصلاة رجل إلى جانبه ، يقال : ولرسوله وملائكته وجماعه المصلين .
قال : ومنهم من يتوسوس في إخراج الحرف حتى يكرره مرارا .
قال : فرأيت منهم من يقول : الله أكككبر . قال : وقال لي إنسان منهم : قد عجزت عن قول : السلام عليكم فقلت له : قل مثل ما قد قلت الآن ، وقد استرحت .
وقد بلغ الشيطان منهم أن عذبهم في الدنيا قبل الآخرة ، وأخرجهم عن اتباع الرسول ، وأدخلهم في جملة أهل التنطع والغلو ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .
فمن أراد التخلص من هذه البلية فليستشعر أن الحق في اتباع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله وفعله ، وليعزم على سلوك طريقته عزيمة من لا يشك أنه على الصراط المستقيم ، وأن ما خالفه من تسويل إبليس ووسوسته ، ويوقن أنه عدو له لا يدعوه إلى خير " إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير" وليترك التعرج على كل ما خالف طريقة رسول الله عليه الصلاة والسلام كائنا ما كان ، فإنه لا يشك أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان على الصراط المستقيم ، ومن شك في هذا فليس بمسلم . ومن علمه فإلى أين العدول عن سنته ؟ وأي شيء يبتغي العبد غير طريفته ؟ ويقول لنفسه : ألست تعلمين أن طريقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هي الصراط المستقيم ؟ فإذا قالت له : بلى ، قال لها : فهل كان يفعل هذا ؟ فستقول : لا ، فقل لها : فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ وهل بعد طريق الجنة إلا طريق النار ؟ وهل بعد سبيل الله وسبيل رسوله إلا سبيل الشيطان ؟ فإن اتبعت سبيله كنت قرينه، وستقولين : " يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين " . ولينظر أحوال السلف في متابعتهم لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فليقتد بهم، وليختر طريقهم فقد روينا عن بعضهم أنه قال : " لقد تقدمني قوم لو لم يجاوزوا بالوضوء الظفر ما تجاوزته " .
قلت : هو إبراهيم النخعي .
وقال زين العابدين يوما لابنه : يا بني ، اتخذ لي ثوبا ألبسه عند قضاء الحاجة ، فإني رأيت الذباب يسقط على الشيء ثم يقع على الثوب، ثم انتبه فقال : ما كان للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه إلا ثوب واحد ، فتركه .
وكان عمر رضي الله تعالى عنه يهم بالأمر ويعزم عليه، فإذا قيل له : لم يفعله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم انتهى، حتى أنه قال : لقد هممت أن أنهي عن لبس هذه الثياب ، فإنه قد بلغني أنها تصبغ ببول العجائز. فقال له أبي : ما لك أن تنهي ، فإن رسول الله عليه الصلاة والسلام قد لبسها ولبست في زمانه ، ولو علم الله أن لبسها حرام لبينه لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم . فقال عمر: صدقت .
ثم ليعلم أن الصحابة ما كان فيهم موسوس، ولو كانت الوسوسة فضيلة لما ادخرها الله عن رسوله وصحابته ، وهم خير الخلق وأفضلهم ، ولو أدرك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الموسوسين لمقتهم ، ولو أدركهم عمر رضي الله تعالى عنه لضربهم وأدبهم ، ولو أدركهم الصحابة لبدعوهم ، وها أنا أذكر ما جاء في خلاف مذهبهم على ما يسره الله تعالى مفصلا .
في النية في الطهارة والصلاة
النية هي القصد والعزم على فعل الشيء، ومحلها القلب ، لا تعلق لها باللسان أصلا ، ولذلك لم ينقل عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا عن أصحابه في النية لفظ بحال ، ولا سمعنا عنهم ذكر ذلك . وهذه العبارات التي أحدثت عند افتتاح الطهارة والصلاة قد جعلها الشيطان معتركا لأهل الوسواس ، يحبسهم عندها . ويعذبهم فيها ، ويوقعهم في طلب تصحيحها فترى أحدهم يكررها ويجهد نفسه في التلفظ بها، وليست من الصلاة في شيء ، وإنما النية قصد فعل الشيء ، فكل عازم على فعل فهو ناويه ، لا يتصور انفكاك ذلك عن النية فإنه حقيقتها، فلا يمكن عدمها في حال وجودها . ومن قعد ليتوضأ فقد نوى الوضوء ، ومن قام ليصلي فقد نوى الصلاة ، ولا يكاد العاقل يفعل شيئا من العبادات ولا غيرها بغير نية، فالنية لازم لأفعال الإنسان المقصودة ، لا يحتاج إلى تعب ولا تحصيل . ولو أراد إخلاء أفعاله الاختيارية عن نية لعجز عن ذلك . ولو كلفه الله عز وجل الصلاة والوضوء بغير نية لكلفه مالا يطيق، ولا يدخل تحت وسعه . وما كان هكذا فما وجه التعب في تحصيله ؟ وإن شك في حصول نيته فهو نوع جنون . فإنما علم الإنسان بحال نفسه أمر يقيني . فكيف يشك فيه عاقل من نفسه ؟ ومن قام ليصلي صلاة الظهر خلف الإمام فكيف يشك في ذلك ؟ ولو دعاه داع إلى شغل في تلك الحال لقال : إني مشتغل أريد صلاة الظهر ، ولو قال قائل في وقت خروجه إلى الصلاة : أين تمضي ؟ لقال : أريد صلاة الظهر مع الإمام ، فكيف يشك عاقل في هذا من نفسه وهو يعلمه يقينا ؟
بل أعجب من هذا كله أن غيره يعلم بنيته بقرائن الأحوال ، فإنه إذا رأى إنسانا جالسا في الصف في وقت الصلاة عند اجتماع الناس علم أنه ينتظر الصلاة . وإذا رآه قد قام عند إقامتها ونهوض الناس إليها، علم أنه إنما قام ليصلي . فإن تقدم بين يدي المأمومين علم أنه يريد إمامتهم . فإن رآه في الصف علم أنه يريد الائتمام .
قال : فإذا كان غيره يعلم نيته الباطنة بما ظهر من قرائن الأحوال ، فكيف يجهلها من نفسه ، مع اطلاعه هو على باطنه ؟ فقبوله من الشيطان أنه ما نوى تصديق له في جحد العيان، وإنكار الحقائق المعلومة يقينا، ومخالفة للشرع، ورغبة عن السنة ، وعن طريق الصحابة .
ثم إن النية الحاصلة لا يمكن تحصيلها ، والموجودة لا يمكن إيجادها ، لأن من شرط إيجاد الشيء كونه معدوما ، فإن إيجاد الموجود محال ، وإذا كان كذلك فما يحصل له بوقوفه شيء ، ولو وقف ألف عام .
قال : ومن العجب أنه يتوسوس حال قيامه ، حتى يركع الإمام ، فإذا خشي فوات الركوع كبر سريعا وأدركه . فمن لم يحصل النية في الوقوف الطويل حال فراغ باله كيف يحصلها في الوقت الضيق مع شغل باله بفوات الركعة ؟
ثم ما يطلبه إما أن يكون سهلا أو عسيرا ، فإن كان سهلا فكيف يعسره ؟ وإن كان عسيرا فكيف تيسر عند ركوع الإمام سواء ؟ وكيف خفي ذلك على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وصحابته من أولهم إلى آخرهم ، والتابعين ومن بعدهم ؟ وكيف لم ينتبه له سوى من استحوذ عليه الشيطان ، أفيظن بجهله أن الشيطان ناصح له ؟ أما علم أنه لا يدعو إلى هدى، ولا يهدي إلى خير؟ وكيف يقول في صلاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسائر المسلمين الذين لم يفعلوا فعل هذا الموسوس ؟ أهي ناقصة عنده مفضولة، أم هي التامة الفاضلة ، فما دعاه إلى مخالفتهم والرغبة عن طريقهم ؟
فإن قال : هذا مرض بليت به . قلنا : نعم سببه قبولك من الشيطان، ولم يعذر الله تعالى أحدا بذلك . ألا ترى أن آدم وحواء لما وسوس لهما الشيطان فقبلا منه أخرجا من الجنة ، ونودي عليهما بما سمعت، وهما أقرب إلى العذر، لأنهما لم يتقدم قبلهما من يعتبران به، وأنت قد سمعت وحذرك الله تعالى من فتنته ، وبين لك عداوته ، وأوضح لك الطريق ، فما لك عذر ولا حجة في ترك السنة والقبول من الشيطان .
قلت : قال شيخنا : ومن هؤلاء من يأتي بعشر بدع لم يفعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا أحد من أصحابه واحدة منها ، فيقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . نويت أصلي صلاة الظهر فريضه الوقت، أداء الله تعالى ، إماما أو مأموما، أربع ركعات ، مستقبل القبلة ، ثم يزعج أعضاءه ويحني جبهته ويقيم عروق عنقه ، ويصرخ بالتكبير ، كأنه يكبر على العدو . ولو مكث أحدهم عمر نوح عليه السلام يفتش : هل فعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو أحد من أصحابه شيئا من ذلك ، لما ظفر به ، إلا أن يجاهر بالكذب البحت .
فلو كان في هذا خير لسبقونا إليه ، ولدلونا عليه . فإن كان هذا هدى فقد ضلوا عنه ، وإن كان الذي كانوا عليه هو الهدى والحق فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟!
قال : ومن أصناف الوسواس ما يفسد الصلاة ، مثل تكرير بعض الكلمة ، كقوله في التحيات : ات ات ، التحي التحي ، وفي السلام : أس أس . وقوله في التكبير : أكككبر ونحو ذلك ، فهذا الظاهر بطلان الصلاة به، وربما كان إماما فأفسد صلاة المأمومين ، وصارت الصلاة التي هي أكبر الطاعات أعظم إبعادا له عن الله من الكبائر ، وما لم تبطل به الصلاة من ذلك فمكروه وعدول عن السنة، ورغبة عن طريقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهديه، وما كان عليه أصحابه، وربما رفع صوته بذلك فآذى سامعيه ، وأغرى الناس بذمه والوقيعة فيه ، فجمع على نفسه طاعة إبليس ومخالفة السنة ، وارتكاب شر الأمور ومحدثاتها ، وتعذيب نفسه وإضاعة الوقت ، والاشتغال بما ينقص أجره ، وفوات ما هو أنفع له ، وتعريض نفسه لطعن الناس فيه ، وتغرير الجاهل بالأقتداء به ، فإنه يقول : لولا أن ذلك فضل لما اختاره لنفسه ، وأساء الظن بما جاءت به السنة ، وأنه لا يكفي وحده ، وانفعال النفس وضعفها للشيطان، حتى يشتد طمعه فيه وتعريضه نفسه للتشديد عليه بالقدر، عقوبة له ، وإقامته على الجهل ، ورضاه بالخبل في العقل ، كما قال أبو حامد الغزالي وغيره ، الوسوسة سببها إما جهل بالشرع وإما خبل في العقل، وكلاهما من أعظم النقائص والعيوب .
فهذه نحو خمسة عشر مفسدة في الوسواس ، ومفاسده أضعاف ذلك بكثير .
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عثمان بن أبي العاص قال : قلت : يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيي وبين صلاتي يلبسها علي ، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " ذاك شيطان يقال له خنزب ، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه ، واتفل عن يسارك ثلاثا ، ففعلت ذلك ، فاذهبه الله تعالى عني " .
فأهل الوسواس قرة عين خنزب وأصحابه ، نعوذ بالله عز وجل منه .
م/ن