تربية الذات والبعد الروحي
يعتبر البعد الروحي من أبرز العوامل والمؤثرات في تربية الذات على المنهج الإسلامي، ويعتبر هذا الجانب الركن الأهم في التربية والتوجيه والتمكين، لأنه يثير في النفس مشاعر وجدانية، ويوقظ في الشخصية الإنسانية معاني سامية. والتربية الروحية تخاطب القوى الكامنة في النفس وتغذيها بطاقات وقدرات لا حدود لها. ثم إن النفس بطبيعتها الفطرية تستجيب لهذا الخطاب وتتأثر به، لكنها عندما تكون تحت سيطرة الغريزة تعرض عنه. والغريزة قوة عمياء تدفع الحواس للانقياد لها، وتحرك الانفعالات السلبية وكل الطاقات الوجدانية نحو ممارسة كثير من السلوكات القبيحة المذمومة.
ومن الطبيعي، أمام هذا الموقف، أن يقع التجاذب والتدافع بين قوة النفس المرتبطة بالغريزة العمياء، وقوة العقل التي تنحو نحو التأمل والروية واستعمال المنطق، إلا أن العقل وحده لا يستطيع أن يمسك بزمام تلك الانفعالات السلبية التي هي عبارة عن أسود ضارية تسكن غابة الغرائز، ولا سبيل له كي يروضها ويجعلها طيعة أليفة ومنقادة، إلا إذا تسلح بالشرع واستعان بقوة الروح.
” ومن أبرز مقومات التربية الروحية ما يلي:
أولا: تنمية القدرة العقلية على أساس التنسيق بين هذه القدرة والقدرات الأخرى للإنسان التي لا يمكن تجاهلها، والقوة العقلية تحتاج إلى تهذيبها والسيطرة عليها، لكي تكون أداة لرقي الإنسان والنهوض بأمره، وإذا استخدمت القوة العقلية كقوة مسيطرة قادت صاحبها إلى استخدام هذه القدرة فيما يسيء لإنسانيته، فالمكر والدهاء لا يعتبران من الفضائل الأخلاقية، لأن القوة العقلية ليست منضبطة ومنقادة لقيم الفضيلة، وهنا يبرز دور التربية الروحية للتخفيف من الآثار السلبية لاستعمال القوى الإنسانية بحيث تبرز الحكمة كنتاج لتفاعل بين القوة العقلية والضوابط الأخلاقية والاجتماعية، وتكمن الحكمة في الاعتدال والوسطية في استخدام القوة العقلية…..
ثانيا: السيطرة على الغرائز الفطرية: وهذه خطوة ضرورية وحتمية ولا يمكن الاستغناء عنها في أي جهد تربوي، فالغرائز قوة ملحة ومندفعة ومؤثرة، وهي قادرة على السيطرة على القوة العقلية، ومن الطبيعي أن الحواس البشرية لا تستطيع مقاومة الإلحاح الغريزي في مجال السلوك، فتنقاد النفوس صاغرة لتلبية المتطلبات الغريزية في مجال الشهوات وفي لحظات الغضب، وأبرز مهمة تواجه المربي في البيت والمدرسة، تتمثل في قدرته على تنمية قوة المقاومة في الشخصية الإنسانية، في مواجهة المتطلبات الغريزية….
وأداة السيطرة على الغرائز تتمثل في ثلاثة عوامل:
العامل الأول: تسليط القوة العقلية على القوة الغريزية، لكي يتمكن العقل من السيطرة على الحواس التي تعتبر كالجند والرعية التي تنقاد بسهولة ويسر للقوة المسيطرة، فإن كانت القوة الغريزية هي المسيطرة، انقادت الحواس لها صاغرة، وإذا استطاع العقل البشري أن يحكم سيطرته على الغريزة انصاعت الحواس له وانقادت لأوامره، ولا تتحرك اليد إلا بما تؤمر به، وهكذا تقع السيطرة على الحواس التي ترتبط بها السلوكية الإنسانية.
العامل الثاني: تنمية الوازع الديني كعامل مؤثر في السيطرة على الغرائز وفي تنمية القوى المواجهة لتلك الغرائز، فالعقل قد يضعف في لحظات المدافعة والمغالبة، وقد يستجيب لنداء الغريزة، وقد يتعاون معها ويتكاثف بحيث ينقاد العقل للقوة الغريزية، وبخاصة بالنسبة للأطفال والمراهقين الذين ما زالت إدراكاتهم العقلية قاصرة عن الفهم والتأمل، ويبرز الوازع الديني كمؤثر شديد الأهمية وكرادع قوي الأثر في ضبط السلوكية، وبخاصة وأن النفس بطبيعتها تأنف من الانحراف في بداية الأمر ثم تنقاد له وتستسلم، وتألف ما كانت ترفضه من أنواع السلوكيات المذمومة….
العامل الثالث: تنمية القوة القلبية، والمراد بالقلب هو الخصوصية الإنسانية، ولذلك جاءت لفظة القلب في القرآن في موطن المخاطب والمعاقب والمحاسب والمكلف، وهو أداة الفهم، والفهم غاية أوسع من مجرد الإدراك والتمييز، فالعقل يميز ويعقل الأشياء بطريقة رياضية، أما القلب فإنه أداة المعرفة الحقة، فإذا قام القلب بوظيفته في مجال المعرفة و الفهم فهو قلب سليم البنية صحيح الفطرة سديد الرؤية، وإذا لم يقم بوظيفته تلك فهو قلب مريض”.
يتضح مما سبق أن الجانب الروحي أهم جانب في الطبيعة الإنسانية، وهو الذي يدفع الإنسان إلى التضحية بالجانب المادي من كيانه وحاجياته المادية في سبيل التسامي الروحي وفي سبيل الله وسبيل خير الأمة والإنسانية.
إن الحياة الروحية هي التي تضفي على الإنسان القوة والإشراق والبهجة في الدنيا والأمل السعيد في الآخرة. وهي التي تجعله يتحمل الصبر وتجعله يواجه الصعوبات بشجاعة وبسالة دون أن ينهزم أمامها ثم يصاب بالانهيارات العصبية وبأمراض نفسية…..
إن استحضار الجانب الروحي وممارسته في إطار الهدي القرآني يجلب للمسلم سكينة النفس التي هي ينبوع السعادة، ولا مصدر للسكينة إلا الإيمان بالله واليوم الآخر
” لقد علمتنا الحياة أن أكثر الناس قلقا وضيقا واضطرابا، وشعورا بالتفاهة والضياع هم المحرومون من نعمة الإيمان، وبرد اليقين.
إن حياتهم لا طعم لها ولا مذاق، وإن حفلت باللذائذ والمرفهات؛ لأنهم لا يدركون لها معنى، ولا يعرفون لها هدفا، ولا يفقهون لها سرا، فكيف يظفرون مع هذا بسكينة نفس، أو انشراح صدر؟
إن هذه السكينة ثمرة من ثمار دوحة الإيمان، وشجرة التوحيد الطيبة، التي تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها.
فهي نفحة من السماء ينزلها الله على قلوب المؤمنين من أهل الأرض، ليثبتوا إذا اضطرب الناس، ويرضوا إذا سخط الناس، ويوقنوا إذا شك الناس، ويصبروا إذا جزع الناس، ويحملوا إذا طاش الناس.
هذه السكينة روح من الله، ونور؛ يسكن إليه الخائف، ويطمئن عنده القلق، ويتسلى به الحزين، ويستروح به المتعب، ويقوى به الضعيف، ويهتدي به الحيران.
هذه السكينة نافذة على الجنة يفتحها الله للمؤمنين من عباده: منها تهب عليهم نسماتها، وتشرق عليهم أنوارها، ويفوح شذاها وعطرها، ليذيقهم بعض ما قدموا من خير، ويريهم نموذجا صغيرا لما ينتظرهم من نعيم، فينعموا من هذه النسمات بالروح والريحان، والسلام والأمان”.
إن العامل الروحي عنصر أساسي في التربية الإيمانية ولا غنى عنه في ترشيد الانفعالات وتوجيهها وإدارة الذات وتحفيزها ودفعها إلى التعاطف وممارسة الحياة الاجتماعية الهادفة والمطمئنة0
منقول
__________