في معرفة الأرواح الجنية المارجية
ما أنقله اليوم لكم هو أحد فصول كتاب" الفتوحات المكية" لإبن عربي, وهو من أروع الفصول التي قرأتها في كشف أسرار هذا العالم الخفي, وأتمنى أن تتاح لنا فرصة مناقشة هذا النص المهم.
قال الله تعالى "وخلق الجانّ من مارج من نار" وورد في الحديث الصحيح أن الله خلق الملائكة من نور وخلق الله الجان من نار وخلق الإنسان مما قيل لكم فأما قوله عليه السلام في خلق الإنسان مما قيل لكم ولم يقل مثل ما قال في خلق الملائكة والجان طلباً للاختصار فإنه أوتي جوامع الكلم وهذا منها فإن الملائكة لم يختلف أصل خلقها ولا الجان وأما الإنسان اختلف خلقه على أربعة أنواع من الخلق فخلق آدم لا يشبه خلق حواء وخلق حواء لا يشبه خلق سائر بني آدم وخلق عيسى عليه السلام لا يشبه خلق من ذكرنا فقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم الاختصار وأحال على ما وصل إلينا من تفصيل خلق الإنسان فآدم من طين وحواء من ضلع وعيسى من نفخ روح وبنو آدم من ماء مهين ولما أنشأ الله الأركان الأربعة وعلا الدخان إلى معقر فلك الكواكب الثابتة وفتق في بذلك الدخان سبع سموات ميز بعضها عن بعض وأوحى في كل سماء أمرها بعد ما قدر في الأرض أقواتها وذلك كله في أربعة أيم ثم قال للسموات والأرض ائتيا طوعاً أو كرها أي أجيبا إذا دعيتما لما يراد منكما مما أمنتما عليه أن تبرزاه فقالتا أتينا طائعين فجعل سبحانه بين السماء والأرض التحاماً معنوياً وتوجهاً لما يريد سبحانه أن يوجده في هذه الأرض من المولدات من معدن ونبات وحيوان وجعل الأرض كالأهل وجعل السماء كالبعل والسماء تلقي إلى الأرض من الأمر الذي أوحى الله فيها كما يلقي الرجل الماء بالجماع في المرأة وتبرز الأرض عند الإلقاء ما خبأه الحق فيها من التكوينات على طبقاتها فكان من ذلك أن الهواء لما اشتعل وحمي اتقد مثل السراج وهو اشتعال النار ذلك اللهب الذي هو احتراق الهواء وهو المارج وإنما سمي مارجاً لأنه نار مختلط بهواء وهو الهواء المشتعل فإن المرج الاختلاط ومنه سمى المرج مرجاً لاختلاط النبات فيه فهو من عنصرين هواء ونار أعني الجان كما كان آدم من عنصرين ماء وتراب عجن به فحدث له اسم الطين كما حدث لامتزاج النار بالهواء اسم المارج ففتح سبحانه في ذلك المارج صورة الجان فيما فيه من الهواء يتشكل في أي صورة شاء وبما فيه من الناس سخف وعظم لطفه وكان فيه طلب القهر والاستكبار والعزة فإن النار أرفع الأركان مكاناً وله سلطان على إحالة الأشياء التي تقتضيها الطبيعة وهو السبب الموجب لكونه استكبر عن السجود لآدم عندما أمره الله عز وجل بتأويل أداه أن يقول أنا خير منه يعني بحكم الأصل الذي فضل الله به بين الأركان الأربعة وما علم أن سلطان الماء الذي خلق منه آدم أقوى منه فإنه يذهبه وأن التراب أثبت منه للبرد واليبس فلا دم القوة والثبوت لغلبة الركنين اللذين أوجده الله منهما وإن كان فيه بقية الأركان ولكن ليس لها ذلك السلطان وهو الهواء والنار كما في الجان من بقية الأركان ولذا سمي مارجاً ولكن ليس لها في نشأته ذلك السلطان وأعطى آدم التواضع للطينية بالطبع فإن تكبر فلأمر يعرض له يقبله بما فيه من النارية كما يقبل اختلاف الصور في خياله وفي أحواله من الهوائية وأعطى الجان التكبر بالطبع للنارية فإن تواضع فلأمر يعرض له يقبله بما فيه من الترابية كما يقبل الثبات على الإغواء إن كان شيطاناً والثبات على الطاعات إن لم يكن شيطاناً وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا سورة الرحمن على أصحابه قال: "إني تلوتها على الجن فكانوا أحسن استماعاً لها منكم" فكلوا يقولون ولا بشيء من آلاء ربنا نكذب إذ قلت "فبأي آلاء ربكما تكذبان" ثابتين عليه ما تزلزلوا عندما كان يقول لهم عليه السلام في تلاوته "فبأي آلاء ربكما تكذبان" وذلك بما فيه من الترابية وبما فيه من المائية ذهبت بحمية النارية فمنهم الطائع والعاصي مثلنا ولهم التشكل في الصور كالملائكة وأخذ الله بأبصارنا عنهم فلا نراهم إلا إذا شاء الله أن يكشف لبعض عباده فيراهم ولما كانوا من عالم السخافة واللطف قبلوا التشكيل فيما يريدونه من الصور الحسية فالصورة الأصلية التي ينسب إليها الروحاني إنما هي أول صورة قبل عند ما أوجده الله ثم تختلف عليه الصور بحسب ما يريد أن يدخل فيها ولو كشف الله عن أبصارنا حتى نرى ما تصوره القوة المصورة التي وكلها الله بالتصوير في خيال المتخيل منا لرأيت مع الأناة الإنسان في صور مختلفة لا يشبه بعضها بعضاً ولما نفخ الروح في اللهب وهو كثير الاضطراب لسخافته وزاده النفخ اضطراباً وغلب الهواء عليه وعدم قراره على حالة واحدة ظهر عالم الجان على تلك الصورة وكما وقع التناسل في البشر بإلقاء الماء في الرحم فكانت الذرية والتوالد في هذا الصنف البشري الآدمي كذلك وقع التناسل في الجان بإلقاء الهواء في رحم الأنثى منهم فكانت الذرية والتوالد في صنف الجان وكان وجودهم بالقوس وهو ناري هكذا ذكر الوارد حفظه الله فكان بين خلق الجان وخلق آدم ستون ألف سنة وكان ينبغي على ما يزعم بعض الناس أن ينقطع التوالد من الجان بعد انقضاء أربعة آلاف سنة وينقضي التوالد من البشر بعد انقضاء سبعة آلاف سنة ولم يقع الأمر على ذلك بل الأمر راجع إلى ما يريده الله فالتوالد في الجن إلى اليوم باق وكذلك فينا فتحقق بهذا كم لآدم من السنين وكم بقي إلى انقضاء الدنيا وفناء البشر عن ظهرها وانقلابهم إلى الدار الآخرة وليس هذا بمذهب الراسخين في العلم وإنما قال به شرذمة لا يعتد بقولها فالملائكة أرواح منفوخة في أنوار والجان أرواح منفوخة في رياح والأناسي أرواح منفوخة في أشباح ويقال أنه لم يفصل عن الموجود الأول من الجان أنثى كما فصلت حواء من آدم قال بعضهم إن الله خلق للموجود الأول من الجان فرجاً في نفسه فنكح بعضه ببعضه فولد مثل ذرية آدم ذكراناً وأناثاً ثم نكح بعضهم بعضاً فكان خلقه خنثى ولذلك هم الجان من عالم البرزخ لهم شبه بالبشر وشبه بالملائكة كالخنثى يشبه الذكر ويشبه الأنثى وقد روينا فيما رويناه من الأخبار عن بعض أئمة الدين أنه رألا رجلاً ومعه ولدان وكان خنثى الواحد من ظهره والآخر من بطنه نكح فولد له ونكح فلود وسمى خنثى من الأنخناث وهو الاسترخاء والرخاوة عدم القوة والشد فلم تقو فيه قوة الذكورية فيكون ذكراً ولم تقو فيه قوة الأنوثة فيكون أنثى فاسترخى عن هاتين القوتين فسمى خنثى والله أعلم ولما غلب على الجان عنصر الهواء والنار لذلك كان غذاؤهم ما يحمله الهواء مما في العظام من الدسم فإن الله جاعل لهم فيها رزقاً فإنا نشاهد جوهر العظم وما يحمله من اللحم لا ينتقص منه شيء فعلمنا قطعاً أن الله جاعل لهم فيها رزقاً ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في العظام "إنها زاد إخوانك من الجن" وفي حديث "إن الله جاعل لهم فيها رزقاً" وأخبرني بعض المكاشفين أنه رأى الجن يأتون إلى العظم فيشمونه كما تشم السباع ثم يرجعون وقد أخذوا رزقهم وغذاؤهم في ذلك الشم فسبحان اللطيف الخبير وأما اجتماع بعضهم ببعض عند النكاح فالتواء مثل ما تبصر الدخان الخارج من الأتون أو من فرن الفخار يدخل بعضه في بعضه فيلتذ كل واحد من الشخصين بذلك التداخل ويكون ما يلقونه كلقاح النخلة بمجرد الرائحة كغذائهم سواء وهم قبائل وعشائر وقد ذكر أنهم محصورون في اثنتي عشرة قبيلة أصولاً ثم يتفرعون إلى أفخاذ وتقع بينهم حروب عظيمة وبعض الزوابع قد يكون عين حربهم فإن 0
منقول