أسس السياسة الشرعية
(1)
الأدلة : الكتاب والسنة والإجماع والقياس
د. سعد بن مطر العتيبي
أسس السياسة الشرعية ومستنداتها الشرعية ، هي أسس بقية المسائل الشرعية ؛ غير أنه يكثر استناد مسائلها على الاستدلال ( طرق الاستنباط ) ؛ ولما كان الأمر كذلك ؛ فيحسن المرور على الأدلة الشرعية الرئيسة 1 ؛ ثم بيان أهم طرائق الاستنباط ( ما يعرف مجازاً بالأدلة المختلف فيها ) ، على نحو تطبيقي موجز يبين كيفية الإفادة منها في مسائل السياسية الشرعية العملية إن شاء الله تعالى . وبيان ذلك كله على النحو الآتي :
أولا : أسس السياسة الشرعية الرئيسة :
الأول : الكتـاب ( القران الكريم ) .
وهـو : كلام الله _تعالى_ حقاً ، لفظاً ومعنى ، نزل به جبريل على محمد _صلى الله عليه وسلم_ بلسان عربي مبين ، المعجز بنفسه ، المتعبد بتلاوته .
قال الله تعالى : {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (195) } [الشعراء ] .
الثاني : السنّـة النبويـة .
وهي في اصطلاح علماء أصول الفقه : ما صدر عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ ، غير القرآن ، من قول ، أو فعل ، أو تقرير . وإن شئت فقل هي : ما شرعه النبي _صلى الله عليه وسلم_ ، بياناً أو تأكيداً لما جاء في القرآن الكريم ، أو تأسيساً لما لم يرد فيه .
حكم الرد إلى الكتاب والسنّة :
والـرَّدُّ إلى الكتاب والسُّنَّة في تأصيل الأحكام ، من المُسَلَّمات ؛ بل هو من مستلزمات الإيمان ، التي اتفق على وجوبها أهلُ الإسلام ، سُنِّيِّهم و بِدْعِيِّهم ، وقد حكى هذا الاتفاق أبو العباس ابن تيمية رحمه الله .
وهذان المصدران ظاهران ؛ وما سواهما من الأدلة متفرعة عنهما .
الثالث : الإجمــاع .
وهو في الاصطلاح الأصولي : " اتفاق مجتهدي عصرٍ ، من أمَّة محمد _صلى الله عليه وسلم_ بعد وفاته ، على أمرٍ دينيّ ". وقولهم : " على أمرٍ ديني " : المراد به أن يتعلق الإجماع بمسألة شرعيّة ، في أيّ مجال من المجالات : عبادات أو معاملات أو عقوبات ، أو غير ذلك من الأمور 2 وحجِّيَّة الإجماع ثابتة بالكتاب ، والسّنَّة ؛ يُكتفى بذكر دليل واحد منها ، وهو قول الله _سبحانه وتعالى_ : {فإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59 ] ؛ لأنَّه تعالى شرط في الرد إلى الكتاب والسنة وجود التنازع ؛ فدلَّ على أنَّ دليل الحكم عند عدم التنازع هو الإجماع ، وعلى أنَّ رد الحكم إلى الإجماع ردٌّ إلى الكتاب والسنة . ذكره أبو المظفر في قواطع الأدلة .
الرابع : القيــاس (الميـزان) كما يعبر بعض العلماء :
والقياس في الاصطلاح الأصولي : " إلحاق واقعة لا نصّ على حكمها ، بواقعة ورد النّصُّ بحكمها ، في الحكم لاشتراكهما في علّة ذلك الحكم " .
وقد لخص الإمام الشافعي-رحمه الله تعالى- حقيقة القياس و كيفيّته في قوله : " كلّ حكم لله ورسوله وجدت عليه دلالة فيه أو في غيره من أحكام الله أو رسوله بأنّه حُكِم به ؛ لمعنىً من المعاني ، فنزلت نازلةٌ ليس فيها نصُّ حكمٍ - : حُكِمَ فيها حُكمَ النّازلة المحكوم فيها ، إذا كانت في معناها " ( الرسالة : 512 ) .
وموضوعه : طلب أحكام الفروع المسكوت عنها ، من الأصول المنصوصة بالعلل المستنبطة من معانيها لِيُلحق كلّ فرع بأصله " قاله الروياني .
وأمّا حجِّيَّته فثابتةٌ بالكتاب ، والسنَّة ، والآثار ، والإجماع .
فمن الكتاب أدلة منها ، قول الله تعالى : {إِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] ؛ إذ ليس يخلو أمر الله تعالى بالرد إلى كتابه وسنة رسوله _صلى الله عليه وسلم_ عند التنازع ، من أحد ثلاث معانٍ :
- إمّا أن يكون أمراً برد المتنازع فيه إلى ما قد تولى الله ورسوله الحكم فيه نصاٌ ، فهذا لا معنى له ؛ إذ أيُّ اختلاف يقع في هذا .
- وإمّا أن يكون أمراً برده إلى ما ليس له بنظير ولا شبيه ، ولا خلاف أنّ ذلك لا يجوز .
- وإما أن يكون أمراً بردِّه إلى جنسه ونظيره مما قد تولى الله ورسوله الحكمَ فيه نصَّاً فيستدلّ بحكمه على حكمه ، وهذا هو المعنى المتعيّن ؛ و هو القياس الشرعي .
ومن السنَّة : قصة المرأة الجهنيّة التي جاءت النبي _صلى الله عليه وسلم_ ، فقالت : ( إنَّ أُمِّي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت ، أفأحج عنها ؟ ) قال : (( نعم حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء )) ؛ فهذا نص صحيح عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ ، صريح في مشروعيَّة إلحاق النظير بنظيره المشارك له في علَّة الحكم ؛ لأنَّه _صلى الله عليه وسلم_ بين إلحاق دَين الله تعالى بدَين الآدمي بجامع أن الكلَّ حق مطالب به تسقط المطالبة به بأدائه إلى أهله ، وهو واضح في الدّلالة على القياس .
وأمَّا الإجماع ؛ فقد أجمع الصَّحابة رضي الله عنهم ، على العمل بالقياس في وقائع كثيرة اختلفوا فيها فصار كل واحد منهم إلى نوع من القياس ، فلم ينكر صاحبه ذلك منه ، مع إنكاره عليه قضيّة حكمه ، كمسألة الجدّ ، والمشتركة ، وميراث ذوي الأرحام ؛ فإن الاختلاف بينهم في هذه المسائل مشهور ، واحتجاجهم فيها من طريق القياس مذكور.
وقد نقل الإجماع على حجيته والاتفاق على الرجوع إليه عند عدم النص ، غيرُ واحد من العلماء ؛ منهم : أبو حامد الغزَّالي ، وابن عبد البر ، وبدر الدين الزركشي ، وغيرهم .
وقال أبو المظفَّر : " ذهب أكثر الأمَّة من الصَّحابة والتَّابعين وجمهور الفقهاءِ والمتكلِّمين إلى أنَّ القياس الشَّرعيَّ أصل من أُصول الشَّرع ويستدلُّ به على الأحكام الَّتي لم يرد بها السّمع " .
ولهذا يُعدّ القياس رابع الأدلَّة المتفق عليها ، لأنَّ الخلاف فيه ضعيف جداً ، هذا إن لم يكن لفظيَّاً.
والقياس الصحيح مُظْهِرٌ لحكم الله تعالى - الذي يحمله عموم معنى النص المَقِيْسِ عليه - لا مُثْبِتٌ له ابتداءً ؛ لأنّ مُثْبِتَ الحُكْمِ هو الله عز وجل ؛ فليس هو دليلاً مستقلاًّ ، وإنما هو طريق من طرق استثمار الأحكام من الأدلة السمعية ؛ للوصول إلى معنى اللفظ و معقوله ؛ و هو مما تعبدنا الله به كما مرّ .
ثانياً : أسس السياسة الشرعية الاستنباطية ( الاستـدلال ) .
الاستدلال يراد به : ما كان مستنداً للحكم غير النص والإجماع والقياس ، مما هو عائد إليها .
وإن شئت فقل هو : محاولة الدليل الشرعي من جهة القواعد ، لا من جهة الأدلة المعلومة .
وحقيقته : الاجتهاد الشرعي في استنباط حكم لم ينص عليه بعينه .
هكذا عرفه في هذا الباب بعض من عبَّر به من علماء الأصول . والتعبير به تعبير بالحقيقة ، بخلاف التعبير بالأدلة المختلف فيها فهو تعبير مجازي عند أهل الأصول .
وببيانه يتجلَّى المستند الشرعي التنظيريُّ للمستجدات في السياسة الشرعية ، كغيرها من المجالات الفقهية .
وأدلة أصل " الاستدلال " كثيرة ، إجمالية وتفصيلية .
وسيأتي ذكر بعضها ، مع جملة من أهم هذه الطرائق والمستنداتِ التي لها الصلة الأقوى في تأصيل السياسة الشرعية في عدد من الحلقات القادمة _إن شاء الله تعالى_ .
---------------------------
1- حتى لا يُظن أنها ليست مستندا للمسائل السياسية الشرعية كما يظن بعض الباحثين ، ذلك أن من الباحثين من يظن أن أسس السياسة الشرعية هي ما يعرف بالأدلة المختلف فيها . وهذا ما يمنعه واقع العلم بمسائل السياسة الشرعية وطرق استنباطها ، كما سيتبيّن _إن شاء الله تعالى_ في الحلقات القادمة . وقد سبق ذكر بعض الشواهد السياسية التي استند فيها إلى الكتاب والسنة . مما يؤكِّد بطلان استبعاد كونها من أسس السياسة الشرعية أيضا .
2- وعلماء الإسلام يريدون به إخراج ما لا يصح أن يكون موضوعاُ للإجماع ؛ كالاتفاق على حكم مسألة لُغَوِيَّة أو فلكيّة أو هندسية أو نحو ذلك من المسائل التي ليس الاتفاق عليها اتّفاقاً على حكم شرعيّ . وبهذا يظهر فساد ما زعمه بعض أساتذة القانون - ممن يَرجِعُ إلى كتبه كثيرٌ من الباحثين في القوانين وأصولها - من أنَّ هذا القيد يفيد إخراج أمور الدنيا ، موضحاً مراده بتمثيله لأمور الدنيا بالأحكام الدستورية ، وهذه لوثة من الفكر الغربي ، لم يَدُرْ بخلد علماء الإسلام أنَّ أحداً يظنه بهم فضلاً عن أن ينسبه إليهم .
مقالة عجبتني تشخص واقع الاختلاف في بعض الاحكام الشرعية وكيفية اصدار الاحكام فيها لمن يجهل ذلك
الكتاب و السنة و الإجماع و القياس