رجل أعمى أنزل الله في شأنه ست عشرة آية
المفسرون
ابن أم مكتوم رجل من رجالات مكة ,لم يكن له وضع وثقل بين القبائل عامة وأهل قريش خاصة ,ولم تسمع به الدنيا قبل الإسلام ,ولم يكن له صوت ولا حديث فيها ,بل كان رجلا عاديا يعيش لنفسه مع نفسه ,ولا يعرف له أسم أو رسم على التأكيد ,الأمر الذي يوجد الأختلاف في اسمه ,فأهل المدينة يقولون :عبد الله بن قيس بن زائدة بن الأصم بن رواحة القرشي العماري .
وأما أهل العراق فسموه ا .
وأمه :عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة بن عامر بن مخزوم بن يقضة المخزومية .فقد بصره صغيرا ,وعرفته دروب مكة وأزقتها دؤوبا في طلب الرزق لا يهدأ ,متنقلا يبحث عن المعرفة لايتعب .
إن فقد بصره حال بينه وبين معرفة الكثير من الإشياء ,ولكنه يريد أن يعرف ,ويعرف كل شيء ,فاستعاض عن عينه بأذنيه ,فاستعملهما في معرفة الأشياء ,فكان يسمع ولاينسى ,وتوصف له الأشياء فتبقى مجسمة في ذهنه متخلية في وجدانه .
سمع ذات يوم بتسلل العبيد والخدم والمستضعفين إلى داره ابن الأرقم يستمعون إلى محمد صلى الله عليه وسلم ,وأحس أن في مكة حركة غير عادية ,فالأعصاب مشدودة من سادة قريش ,والعبيد والخدم يسامون الضرب والتعذيب ,كل ذالك بسبب دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم .حينئذ قرر الذهاب إلى دار ابن الأرقم ليسمع كما يسمعون ,وليعرف الخبر اليقين ,فحمل عصاه وذهب هناك .
ولأول مرة تطرق أذنيه كلمات فتنزل إلى القلب مباشرة فتعطيه السكينة والأمان ,وتهبه قوة لاتبالي بقوة الأرض كلها مجتمعة ,إنها كلمات الوحي التي نزل بها قوة جبريل الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم لتقرر وحدنية الخالق ,وتسوي بين البشر جميعا ,وتحقق العدل بين الأقوياء والضعفاء ,وتملأ الأرض نورا بعد أن ملئت ظلما وجورا .
ومد ابن أم مكتوم يده إلى رسول صلى الله عليه وسلم معلنا إسلامه ,ومقررا انضمامه إلى كتيبة الإيمان ,معاهدا الله ورسوله على بذل روحه في شيء .كان يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم وحوله حلقة من الرجال الأول يسمعون ويفهمون ,ويسأله وهو في طريقه إلى الكعبة ,ويسأله وهو يعترض طريق الرجال ليدعوهم إلى الإسلام .
قال أبن كثير رحمه الله : (ذكر المفسرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما يخاطب بعض عظماء قريش وقد طمع في أسلامه ,فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذا أقبل ابن أم مكتوم -وكان ممن أسلم قديما -فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيء ويلح عليه ,وود النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذالك الرجل طمعا ورغبة في هداية ,وعبس في وجه ابن أم مكتوم , وأعرض عنه ,وأقبل على الآخر ,فأنزل الله تعالى :{عبس وتولى *أن جآءه الأعمى*ومايدريك لعله يتزكى *أو يذكر فتنفعه الذكرى} ) .
هاجر ابن أم مكتوم إلى المدينة ,ونزل في دار القراء ,وأخذ يؤدي مهمته التي أعد نفسه لها ,مهمته في تعليم الناس مبادىء الدين ,ومهمته في تحفيظهم بعض آيات الذكر الحكيم ,ومهمته في تهيئة النفوس والقلوب في أستقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم ,ولم يلبث طويلا حتى جائته الأنباء يقرب وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ,وخرج مع وفود المستقبلين يتنسم أخبار الحبيب ,ويترقب لحظة وصوله حتى يشنف أذنيه بسماع حديثه واستيعاب هديه .
وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل في دار بني النجار ,ثم أخذ في بناء مسجده ,ليكون المدرسة الكبرى لأول جيل عرفته البشرية يحمل هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في أكثر أوقاته ,لم يتخلف عن صلاة واحده خلفه ,ولم يغب عن حلقة من حلقات التوجيه النبوي ,ولم تند آية واحدة من آيات الذكر الحكيم من فكره وعقله .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالأذان للصلاة إذا ماغاب بلال ,وكان صوته العذب يدوي بكلمة (الله أكبر) خمس مرات في اليوم .
ولقد كان بلال يؤذن في رمضان فلا يمتنع الناس عن الطعام والشراب ؛لأن أذانه فقط لإيقاط النائم وتنبيه الغافل ,فأذا أذن ابن أم مكتوم كان هذا إيذانا بالأمتناع عن الطعام والشراب وإمساك الصائمين ,فعن ابن رضي الله عنه قال : ( إن بلالا يؤذن بليل ,فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم) ,وكان أعمى لاينادي حتى يقال له : أصبحت أصبحت .
وابن أم مكتوم هذا من أولئك الرجال الذي أشربت قلوبهم حب النبي صلى الله عليه وسلم ,فهو أحب إليه من الأهل والعشيرة ,أحب إليه من الزوجة والولد .بل أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه ,وكل واحد من الصحابة الأبرار-وأبن مكتوم منهم -قد يتحمل الإساءة تقدم إلى أهله وذويه ,يكظم غيظه,ويعفو ويصفح ,ولكنه لايقبل بأي حال من الأحوال أن يمس شخص الرسول صلى الله عليه وسلم بأذى ,ولذالك لمانزل ابن مكتوم رضي الله عنه رضي الله عنه على يهودية بالمدينة كانت ترفقه وتحسن إليه وتساعده في طعامه وشرابه ,لكنها تؤذيه في النبي صلى الله عليه وسلم فتناولها ,فضربها ,فقتلها ,فرفع ذالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ,فقال هو : آما والله إن كانت لترفقني ,ولكن آذتني في الله ورسوله .فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (أبعدها الله ,قد أبطلت دمها )
لقد كان ابن أم مكتوم صواما ,لم يراه أحد إلا في عبادة ,أو متجها لأداء عبادة ,أو مشاركا للمسلمين في أمر يهمهم ,ولما نزل قوله تعالى : (لايستوي القاعدون من المؤمنين .... والمجهاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم) فسمع بذالك ابن أم مكتوم فأتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمل الآية على زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : فأنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي ,فثقلت علي ,حتى خفت أن ترض فخذي ,ثم سري عنه ,فأنزل الله (غير أولى الضرر)
وقرر ابن مكتوم أن يكون له أجر المجاهد ,وطلب من إخوانه أن يشركوه معهم في حروبهم ,واستجابوا له ,ورافق الجيش المتجه إلى القادسية . وعندما وصلوا إلى ميدان المعركة قال : يا أحباب الله ,يا أصحاب محمد ,ياأبطال المعارك ,ادفعوا إلي اللواء ,فإني رجل أعمى لا أستطيع أن أفر ,واقيموني بين الصفين .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن عبد الله بن أم مكتوم يوم القادسية كانت معه راية سوداء ,عليه درع .
ثم عاد رضي الله عنه إلى المدينة فمات بها .
وبعد ,فلقد كان ابن أم مكتوم أعمى البصر ,ولكن كان نافذ البصيرة ,أنزل الله فيه قرآنا ,فكان هذا إيذانا من الله تعالى بقيام دولة الموحدين القانتين ,العاملين بشريعة الله في الأرض .كان هذا أيذانا من الله بتثبيت القيم الإيمانية التي على أساسها يتفاضل الناس بقيم الإيمان والتقوى :{إن أكرمكم عند الله أتقاكم} .
ومن ذالك اليوم ,أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يستقبل المستضعفين ,والذين دوى صوتهم في جنبات الأرض يحملون للبشرية كلها الأمن بعد الخوف ,والنور بعد الظلام ,والهدى بعد الضلال ,فاستقبلتهم الدنياء أحسن أستقبال ,وأقامتهم على ظهرها قادة ومعلمين ...