قال ابن القيم – رحمه الله - : «وكذلك الدعاء فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، ولكن قد يختلف عنه أثره إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاءً لا يحبه الله لما فيه من العدوان، فيكون بمنزلة القوس الرخو جدًا فإن السهم يخرج منه خروجًا ضعيفًا، وإما لحصول المانع من الإجابة : من أكل الحرام والظلم ورين الذنوب على القلوب واستيلاء الغفلة والشهوة واللهو وغلبتها عليه كما في مستدرك الحاكم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ادعو الله، وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاءً من قلب لاهٍ» فهذا دواء نافع مزيل للداء ولكنْ غفلةُ القلب عن الله تبطل قوته وكذلك أكل الحرام يبطل قوتها ويضعفها... قال أبو ذر : يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الطعام من الملح» .
وقال – رحمه الله تعالى - : «والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء يدفعه ويعالجه ويمنع نزوله ويرفعه أن يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن وله مع البلاء ثلاث مقامات :
أحدهما : أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه .
الثاني : أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاءُ فيصاب به العبد ولكن قد يخففه وإن كان ضعيفًا .
الثالث : أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه» .
وقال – رحمه الله الله تعالى - «ومن الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء عليه : أن يستعجل العبد ويستبطئ الإجابة فيستحسر ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذر بذرًا أو غرس غرسًا فجعل يتعهده ويسقيه فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله» .
وقال – رحمه الله تعالى : «وإذا جمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب؛ وصادف وقتًا من أوقات الإجابة الستة وهو : الثلث الأخير من الليل، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبات، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تٌقضى الصلاة من ذلك اليوم، وآخر ساعة بعد العصر؛ وصادف خشوعًا في القلب وانكسارًا بين يدي الرب وذلاً له وتضرعًا ورقة؛ واستقبل الداعي القبلة، وكان على طهارة، ورفع يديه إلى الله، وبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ثنى بالصلاة على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم قدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار ... وألح في المسألة وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدم بين يدي دعائه صدقةً فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدًا ولا سيما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة أو أنها متضمنة للاسم الأعظم»
قال يحيى بن معاذ الرازي : «لا تستبطئ الإجابة وقد سددت طريقها بالذنوب»
قال الذهبي : وروى أبو عمر الضرير عن أبي عوانة قال : دخلت على همام بن يحيى وهو مريض أعوده فقال لي : يا أبا عوانة أُدع الله لي أن لا يميتني حتى يبلغ ولدي الصغار فقلت : إن الأجل قد فرغ منه فقال لي : أنت بعد في ضلالك قلت : (والكلام للذهبي) بئس هذا! بل كل شيء بقدر سابق ولكن وإن كان الأجل قد فرغ منه فإن الدعاء بطول البقاء قد صح دعا الرسول صلى الله عليه وسلم لخادمه أنس بطول العمر، والله يمحو ما يشاء ويثبت فقد يكون طول العمر في علم الله مشروطًا بدعاء مجاب، كما أن طيران العمر قد يكون بأسباب جعلها الله من جور وعسف و(لا يرد القضاء إلا الدعاء) والكتاب الأول فلا يتغير)
قال أبو حازم الأعرج : «لأنا من أن أمنع من الدعاء أخوف مني أن أمنع الإجابة»
روى مسعر عن ابن عون قال : ذكر الناس داء وذكر الله دواء قلت (والكلام للذهبي) إي والله فالعجب منا ومن جهلنا، كيف ندع الدواء ونقتحم الداء ؟ قال الله تعالى : " فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ "[البقرة: 153] وقال : " وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ " [العنكبوت: 46]، وقال تعالى : " الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ " [الرعد: 28]، ولكن لا يتهيأ ذلك إلا بتوفيق الله، ومن أدمن الدعاء ولازم قرع الباب فتح له
عن مورق قال : «ما امتلأتُ غضبًا قط، ولقد سألت الله حاجة منذ عشرين سنة، فما شفعني فيها وما سئمت من الدعاء» .
عن ابن المنكدر قال : «إن الله يحفظ العبد المؤمن في ولده وولد ولده، ويحفظه في دويرته ودويرات حوله، فما يزالون في حفظ أو في عافية ما كان بين ظهرانيهم»
قال الذهبي في وصيته لمحمد بن رافع السلامي – رحمهما الله تعالى - : «...فثمة طريق قد بقي لا أكتمه عنك وهو : كثرة الدعاء والاستعانة بالله العظيم في آناء الليل والنهار، وكثرة الإلحاح على مولاك بكل دعاء مأثور تستحضره أو غير مأثور، وعقيب الخمس : في أن يصلحك ويوفقك» .
قال ابن القيم – رحمه الله تعالى – في فضائل الذكر والدعاء : «... ولهذا كان المستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله – تعالى – والثناء عليه بين يدي حاجته، ثم يسأل حاجته ... فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدعاء يستجاب إذا تقدمه هذا الثناء والذكر وأنه اسم الله الأعظم، فكان ذكر الله – عز وجل – والثناء عليه أنجح ما طلب به العبد حوائجه فالدعاء الذي يقدمه الذكر والثناء أفضل وأقرب إلى الإجابة من الدعاء المجرد، فإذا انضاف إلى ذلك إخبار العبد بحاله ومسكنته وافتقاره واعترافه كان أبلغ في الإجابة وأفضل، فإنه يكون قد توسل المدعو بصفات كماله وإحسانه وفضله وعرَّض بل صرح بشدة حاجته وضرورته وفقره ومسكنته: فهذا المقتضي منه وأوصاف المسئول مقتضى من الله فاجتمع المقتضى من السائل والمقتضى من المسئول في الدعاء وكان أبلغ وألطف موقعًا وأتم معرفة وعبودية ... وفي الصحيحين : أن أبا بكر الصديق – رضي الله عنه – قال : يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال : قل : «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» فجمع في هذا الدعاء الشريف العظيم القدر بين الاعتراف بحاله والتوسل إلى ربه عز وجل بفضله وجوده وأنه المنفرد بغفران الذنوب، ثم سأل حاجته بعد التوسل بالأمرين معًا فهكذا أدب الدعاء وآداب العبودية» .
وقال – رحمه الله تعالى - : «قراءة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الدعاء هذا من حيث النظر لكل منهما مجردًا ... اللهم إلا أن يعرض للعبد ما يجعل الذكر أو الدعاء أنفع له من قراءة القرآن ... وكذلك أيضًا قد يعرض للعبد حاجة ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها بقراءة أو ذكر لم يحضر قلبه فيهما وإذا أقبل على سؤالها والدعاء إليها اجتمع قلبه كله على الله تعالى وأحدث له تضرعًا وخشوعًا وابتهالاً، فهذا قد يكون اشتغاله بالدعاء والحالة هذه أنفع، وإن كان كل من القراءة والذكر أفضل وأعظم أجرًا، وهذا باب نافع يحتاج إلى فقه نفسه وفرقان بين فضيلة الشيء في نفسه وبين فضيلته العارضة، فيُعطى كل ذي حق حقه ويوضع كل شيء موضعه» ...