يقول تعالى ( اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)) " فاطر"
قال جماعة من أهل نصيبين، إنه كان بها اخوين ورثا عن أبيهما مالاً عظيماً جليلاً فاقتسماه ، فأسرع أحدهما في حصته وأنفقها في الأكل والشرب والملاهي حتى لم يبق معه شيء ، واحتاج إلى ما في أيدي الناس.
أما الآخر فاستثمر حصته من الميراث بالتجارة فنمت و زادت ، وفي يوم من الأيام عرض له سفر في تجارته، فجاءه أخوه الذي أنفق ماله حتى صار فقيرا وقال: يا أخي إنك تحتاج إلى أن تستأجر غلاماً في سفرك، وأنا أحتاج إلى أن أخدم الناس، فاجعلني بدل غلام تستأجره، فيكون ذلك أصون لي ولك.
فلم يشك الأخ أن أخاه قد تأدب، وأن هذا أول إقباله، وآثر أن يصون أخاه، ورق عليه، فأخذه معه ، وكان للأخ الغني حمار فاره يركبه ، وقد استأجر بغالاً لأحماله ، فأركب أخاه أحدها، وركب هو أحدها، وأركب المكاري الحمار، وساروا.
فلما استمر بهم السفر، وصلوا الى جبل في الطريق وفيه كهف وبالقرب منه عين ماء، فقال الأخ الفقير للأخ الغني: لو نزلنا ها هنا، وأرحنا دوابنا، وسقيناها من هذا الماء، وأكلنا، ثم ركبنا، لكان أروح لنا.
فقال: إفعل.
فنزل التاجر على باب الكهف الذي في الجبل، وأدخل متاعه إليه، وبسط السفرة، وأخذ أخوه الفقير و المكاري ، الدواب، ومضيا ليسقياها من عين الماء ، وانتظر التاجر أخاه...فاحتبس طويلاً ، ثم جاء الفقير وحده وشد الدواب.
فقال له أخوه: يا أخي ما قعادك، وأنا أنتظرك تأكل معي ؟
فقال: حتى سقيت الدواب.
فقال: وأين المكاري ؟
فقال: قد نام في الجبل.
فقال: تعال، حتى نأكل.
فتركه ومضى ، ثم عاد ، وبيده حجارة يرمي بها أخاه ، ويقول له: أستكتف.
فقال له: ويحك ما تريد ؟
فقال: أريد قتلك ، أخذت مالي أبي، فجعلته تجارة لك، وجعلتني غلامك ، ورفسه، وألقاه على ظهره، ثم أوثقه كتافاً، وأثخنه ضرباً بالحجارة، وشجاجاً، وصاح الرجل، فلم يجبه أحد ، وبرك أخوه الفقير على صدره، وكان في وسطه سكين عظيمة ، في قراب لها ، فرام وحاول استخراجها من القراب ليذبحه بها ، فتعسرت عليه، فقام عن صدر أخيه، وأعلا يده اليسرى ، وفيها السكين في قرابها، وجذبها بيده اليمين بقوة ، وقد صار القراب قرب حلقه، فخرجت السكين بقوة الجذبة ومالت على رقبته فقطعت ودجه ، فوقع يخور في دمه ، ونزف إلى أن مات، وجفت يده على السكين بعد موته وهي فيها.
وبقي أخوه الغني مشدودا بالحبال ولا يقدر على الحركة ، ضرب بالحجارة وربط بالحبال وجوع وتعب السفر وأحداث لم تكن في الحسبان ، فأقام على تلك الصورة بقية يومه، وليلته، وقطعة من غده وهو ينتظر الفرج .
فاجتازت قافلة على ذلك المكان ، وكان بينها وبين الكهف بعد ، فأحست البغال بالدواب المجتازة فصهلت ، ونهق الحمار وجذب الرسن ، وجذبت البغال أرسانها ، فأفلتت، وغارت تطلب الدواب.
فلما رأى أهل القافلة، دواباً غائرة، ظنوا أنها لقوم قد أسرهم اللصوص، وكانوا في منعة، فتسارعوا إلى البغال ، فلما قصدوها، رجعت تطلب موضعها.
وتبعها قوم من أهل القافلة، حتى انتهوا إلى التاجر، وشاهدوه مكتوفاً، والسفرة منشورة، والأخ مذبوحاً، وبيده السكين، فشاهدوا عجباً.
واستنطقوا الرجل، فأومأ إليهم أن لا قدرة له على الكلام، فحلوا كتافه، وسقوه ماء، وأقاموا عليه إلى أن أفاق، وقدر على الكلام، فأخبرهم الخبر، فطلبوا المكاري فوجدوه غريقاً في الماء، قد قتله وأغرقه الأخ الفقير. فحملوا أثقال التاجر على بغاله، وأركبوه على حماره، وسيروه معهم .
من كتاب : الفرج بعد الشدة