إن كل دواء سيأتي ذكره في باب (جرعات الدواء) إذا صاحب تعاطيك له دعوة غيرك إلى تناوله والأخذ به ؛ كان ذلك عاملا مساعدا على تعظيم أثر الدواء على قلبك أيها الداعي ومضاعفة مفعوله وأثره ، فإذا وفَّقك الله لطاعته ، وحفظك من مواطن الزلل ، فاعلم أن لهذه النعمة تبعات ، وهذه التبعات هي شكر هذه النعمة ، وهذا الشكر يتمثل في دعوة الآخرين للنجاة ، أما كفر هذه النعمة فهو : الاغترار بحالك ، وعدم الاكتراث بنجاة من حولك ، وعندها قد تنزع منك نعمة الهداية ، فرُبَّ جيد لا يليق به العقد فيُخلع ، ورُبَّ أرض أجدبت بعد الزرع فتُهجر!!
الدعوة كذلك تزيد مناعة الجسم الإيمانية وتحميه من السقوط في المستقبل ، فيدعو الداعية نفسه وهو يدعو غيره ، ويعظ قلبه مع قلوب مستمعيه ، بل إن من أصابه المرض فترة تصبح فرصته أكبر في شفاء غيره وهدايته ، وكيف لا وقد عرف الداء بنفسه وعانى منه بقلبه ، ثم حافظ على جرعات الدواء ومر بكل مراحل الشفاء حتى برئ. قال ابن القيِّم مبرهنا ومؤكِّدا :
" يصير كالطبيب ينتفع به المرضى في علاجهم ودوائهم ، والطبيب الذي عرف المرض مباشرة وعرف دواءه وعلاجه أحذق وأخبر من الطبيب الذي إنما عرفه وصفا ؛ هذا في أمراض الأبدان وكذلك في أمراض القلوب وأدوائها ، وهذا معنى قول بعض الصوفية : أعرف الناس بالآفات أكثرهم آفات ، وقال عمر بن الخطاب : إنما تُنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية ، ولهذا كان الصحابة أعرف الأمة بالإسلام وتفاصيله وأبوابه وطرقه ، وأشد الناس رغبة فيه ومحبة له وجهادا لأعدائه ، وتحذيرا من خلافه لكمال علمهم بضده ، والمقصود أن من بُلي بالآفات صار من أعرف الناس بطرقها ، وأمكنه أن يسدها على نفسه وعلى من استنصحه من الناس ومن لم يستنصحه " .
والتائب من الذنب أصدق لهجة في الدعوة وأقوى حجة في الإقناع لأن من ذاق الحلاوة كره المرارة ، بل حذَّر غاية التحذير منها لأنه سبق وأن اكتوى بنارها من قبل ؛ فصار يصيح في الطرقات يحذِّر الغافلين وينذر المغترين ، وصدق سهل بن عبد الله حين جزم قاطعا بأنه :
" لا يعرف الرياء إلا مخلص ، ولا يعرف النفاق إلا مؤمن ، ولا يعرف الجهل إلا عالم ، ولا يعرف المعصية إلا مطيع " .
العدو الصديق!!
يا صاحب المروءة .. يا أبيا لا يقبل الضيم .. يا من استزله الشيطان ببعض ما كسب :
ساعَدَك شيطانك من حيث أراد أن يغويك ، وهداك من حيث أراد أن يضلك ، وثقَّل ميزان حسناتك من حيث قصد إثقال كفة السيئات ، فإن " القلب يكون ذاهلا عن عدوه معرضا عنه مشتغلا ببعض مهماته ؛ فإذا أصابه سهم من عدوه استجمعت له قوته وحاسته وحميته ، وطلب بثأره إن كان قلبه حرا كريما ؛ كالرجل الشجاع إذا جُرِح فإنه لا يقوم له شيء ، بل تراه بعدها هائجا طالبا مقداما ، والقلب الجبان المهين إذا جُرِح كالرجل الضعيف المهين إذا جُرِح ولى هاربا والجراحات في أكتافه ، وكذلك الأسد إذا جُرِح فإنه لا يطاق ، فلا خير فيمن لا مروءة له يطلب أخذ ثاره من أعدى عدوه ، فما شيء أشفى للقلب من أخذه بثأره من عدوه ، ولا عدو أعدى له من الشيطان ، فإن كان قلبه من قلوب الرجال المتسابقين في حلبة المجد جدَّ في أخذ الثأر ، وغاظ عدوه كل الغيظ وأضناه " .
وصدق محمد إقبال وهو يخلب الألباب بعباراته ، ويُدمي القلوب بإشاراته ويقول :
كم عدوٍّ لك في الحق صديق أنت بالأعداء ذو غصن وريق
يوقِظ الخصم قواك الهاجدة مثل ما تُحيي المواتَ الراعدة
ومن هنا أتوجه بهذه النصيحة للكل : المرضى والأصحاء ، والضعفاء قبل الأقوياء ، والسائرين في بداية الطريق والبالغين منتهاه ، والمتمتعين بالعافية الإيمانية واللذين لا يزالون يتعثرون في حبائل الشيطان ، وأدعوهم جميعا للبذل والعطاء والكرم والسخاء ، وآمرهم بما أمرهم به ابن عطاء الله السكندري حين قال :
" لينفق ذو سعة من سعته : الواصلون إليه ، ومن قُدِر عليه رزقه : السائرون إليه " .
رحم الله ابن عطاء ، فكلماته كالقمر في الضياء ، لكن الشمس أضوأ ، والشمس هنا هي حديث رسولنا :
« بلِّغوا عني ولو آية » .
أخي .. كن ذكيا وأقبل على ما ينفعك واعتبر هذه الوصية دعوة إلى تكثير أجرائك من إخوانك اليوم ، ليعملوا لك ولحسابك لتحصد أنت من ورائهم الخير والثواب والربح والجنة. قال أحمد بن حرب : " مثل الذي يعلِّم الناس الخير ويرشدهم إليه مثل من استأجر أجراء يعملون له بأبدانهم وأموالهم الليل والنهار في حياته وبعد مماته " .
وهل تاجر أخروي ورابح رباني مثل العالم المجاهد عبد الله بن المبارك؟! الذي لم يضيِّع لحظة واحدة في غير خير وبر ، ولا خير مثل الدعوة إلى الله ، ولا بر أبرَّ من إنقاذ الناس من الضلال ، وذلك لما حضرت الوفاة عبد الله بن المبارك جعل رجل يُلقِّنه : قل : لا إله إلا الله ، فأكثر عليه ، فقال : " إنك ليس تُحسن ، وأخاف أن تؤذي بها رجلا مسلما بعدي ، إذا لقنتني فقلتُ : لا إله إلا الله ، ثم لم أُحدِث كلاما بعدها فدعني ، فإذا أحدثتُ كلاما بعدها فلقِّنّي حتى تكون آخر كلامي " .
وتذكر أنك :
إن لم تُزِل الفخ سقطت فيه
بمعنى أنك إن لم تُزِل أسباب التعثر وقعت ، وإن لم تقطع أسباب الهلاك هلكت ، وإن لم تسع في القضاء على موارد العَطَب .. أُخِذتَ ، وإن سمحت للمنكرات أن تنتشر حولك فسيعم الوباء الذي سينالك رذاذه يوما ما ولابد.
م/ن