بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
بيان الخلوة والعزلة الروحانية
فالخلوة والعزلة على وجهين: ظاهر، وباطن.
فالخلوة الظاهرة: عزل نفسه وحبس بدنه عن الناس لئلا يؤذي الناس بأخلاقه الذميمة ويترك النفس مألوفاتها , وحبس حواسها الظاهرة لفتح الخواص الباطنة , بنية الإخلاص والموت بالإرادة ودخول القبر , , ويكون نيته في ذلك رضاء الله تعالى , ودفع شر نفسه عن المسلمين كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " وكف لسانه عما لا يعنيه كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " سلامة الإنسان من قبل اللسان " وكف عينيه عن الخيانة والنظر الحرام وكذا كف أذنيه ويديه ورجليه كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " العينان تزنيان " ويحصل من كل زنى من هذه الأعضاء شخص قبيح في صورة خبيثة يقوم معه يوم القيامة , ويشهد عليه عند الله تعالى , ويأخذ صاحبه فيعذبه في النار , فإذا تاب منه وحبس نفسه – كما قال الله تعالى : " .. ونهى النفس عن الهوى . فإن الجنة هي المأوى " سورة النازعات – تبدل صورته الخبيثة إلى صورة أمرد مليح , ويأخذ صاحبه إلى الجنة , وينجو من شره , فكأن، الخلوة حصنته من المعاصي , فيبقي عمله صالحا , ويكون محسنا كما قال الله تعالى : " إن الله لا يضيع أجر المحسنين " سورة التوبة . وقال الله تعالى : " ... فمن كان يرجو ا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ..." سورة الكهف .
وأما الخلوة الباطنة : أن لا يدخل في قلبه من التفكرات النفسانية والشيطانية مثل محبة المأكولات والمشروبات , ومثل محبة الأهل والعيال , ومثل محبة الحيوانات والرياء والسمعة والشهرة كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " الشهرة آفة وكل يتمناها , والخمول راحة وكل يتوقاها " ولا يدخل في قلبه باختياره مثل الكبر والعجب والبخل وغير ذلك من الذمائم , فإذا دخل في قلب الخلوتي من هذه الذمائم فسدت خلوته وقلبه , وفسد ما في قلبه من الأعمال الصالحة والإحسان , فبقي القلب بلا منفعة كما قال الله تعالى : " ... إن الله لا يصلح عمل المفسدين " سورة يونس . فكل من كان فيه من هذه المفسدات فهو من المفسدين , وإن كان في الظاهر صورة الصالحين كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب " وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " الغيبة أشد من الزنا " وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها " وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " البخيل لا يدخل الجنة ولو كان عابدا وزاهدا " وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " النمام لا يدخل الجنة " وغير ذلك من الأحاديث في الأخلاق الذميمة , فهذا محل الاحتياط
والمقصود أولا من التصوفات : تصفية القلب لها , وقلع هوى النفس من أصلها بالخلوة والرياضة والصمت وملازمة الذكر بالإرادة والمحبة والإخلاص والتوبة والاعتقاد الصحيح السني تبعا على آثار السلف الصلحاء من الصحابة والتابعين من المشايخ والعلماء العاملين , فإذا جلس المؤمن الموحد في الخلوة بالتوبة والتلقين مع هذه الشرائط المذكورة خلص الله عمله , ونور الله قلبه , ولين جلده , وطهر لسانه , وجمع حواسه من الظاهر والباطن , ورفع عمله إلى حضرته , وسمع دعائه كما يقول : سمع الله لمن حمده أي : قبل الله دعوته وثناءه وتضرعه , وأنال عوضه إلى عبده من القربة والدرجة كما قال الله تعالى : " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " سورة فاطر .
والمراد من الكلم الطيب : أن يحفظ لسانه من اللغويات بعد كونه آلة لذكر الله تعالى وتوحيده كما قال الله تعالى : " قد أفلح المؤمنون . الذين هم في صلاتهم خاشعون . والذين هم عن اللغو معرضون " سورة المؤمنون . فيرفع الله العلم والعمل والعامل إلى قربته ورحمته ودرجاته بالمغفرة والرضوان .
وإذا حصلت للخلوتي هذه المقامات كان قلبه كالبحر لا يتغير بإيذاء الناس كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( كن بحرا )لا يتغير فتموت البريات النفسانية فيه كما غرق فرعون وآله في البحر , ولم يفسد البحر , ثم تكون سفينة الشريعة سليمة جارية عليه , ويكون الروح القدسي غواصا إلى قعره , فيصل إلى در الحقيقة ويخرج من لؤلؤ المعرفة ومرجان اللطائف المكنونة كما قال الله تعالى : " يخرج منهما اللؤلؤ و المرجان " سورة الرحمن . لأن هذا البحر حصل لمن جمع بحر الظاهر والباطن , فلا يمكث بعده الفساد في القلب , وتكون توبته ناصحا له , وعمله نافعا , ولا يميل إلى المناهي قصدا , ويكون السهو النسيان معفوا عنه بالاستغفار والندم إن شاء الله تعالى .