نساء العلماء هن الجنود المجهولون الذين تقوم على أكتافهم بشائر النصر، وقد لا يعرفهن أحد من الناس، لكن الله - تعالى- يعرفهن، ويكافئهن بالإحسان إحساناً، فللنساء في حياة الأنبياء والعلماء دور لا ينكر، قال الشاعر:
هل كان حول محمدٍ من قومه *** إلا صبيٌّ واحد ونساءُ؟
فها هي أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - كانت مثلاً رائعاً لحمل علوم الإسلام ولإبلاغها للناس، قال مسروق: رأيت مشيخة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأكابر يسألونها عن الفرائض، وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأياً في العامة، وقال هشام بن عروة عن أبيه: ما رأيت أحدا أعلم بفقه، ولا بطب، ولا بشعر من عائشة، وقال أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه: ما أشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها فيه علماً، وقال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع العالمين المؤمنين وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل " ا. هـ الإصابة 8/18، سير أعلام النبلاء 2/179-189.
ونساء العلماء هن من تحملن مع العالم شظف العيش وعسر الحال فلم يشتكين، أراد شعيب بن حربٍ أن يتزوّج امرأة ً فقال لها: إني سيئ الخلق، فقالت أسوأ خلقاً منك من يحوجك إلى أن تكون سيئ الخلق. أخبار الظراف والمتماجنين، لابن الجوزي 147.
كما تحملن انشغال العالم بالعلم والتدريس وبالكتب التي كانت عليهن أشد من الضرائر، قال محمد بن إسحاق الصيرفي: سألت الزبير: منذ كم زوجتك معك؟ قال الزبير بن بكارٍ، قالت: بنت أختي لأهلي خالي خير رجلٍ لأهله لا يتخّذ ضرّة،ً ولا يشتهي جارية،ً قالت: تقول: المرأة والله لهذه الكتب أشدّ عليّ من ثلاث ضرائر. تاريخ بغداد 8/470، الذهبي: السير (12/314).
قال أبو القاسم عبيد الله بن عمر البقال: تزوّج شيخنا أبو عبد الله ابن المحرّم، وقال لي: لمّا حملت إليّ المرأة جلست في بعض الأيّام أكتب شيئاً على العادة والمحبرة بين يديّ، فجاءت أمّها، فأخذت المحبرة، فضربت بها الأرض، فكسرتها، فقلت لها في ذلك، فقالت: هذه شرّ على ابنتي من ثلاث مئة ضرّة.
قال المعري:
إذا كنتَ ذا ثِنْتينِ فاغْدُ مُحارِباً *** عدوّينِ، واحذَرْ من ثلاثِ ضرائرِ
وإنْ هُنّ أبدَينَ المودّةَ والرّضا *** فكم من حُقُودٍ غُيّبَتْ في السّرائر!
ولقد ضُرب المثل ببعض نساء العلماء، واللائي كان لهن دور بارز في حياة هؤلاء العلماء، فها هو مسروق - رضي الله عنه - يقوم الليل حتى انتفخت ساقاه، وكانت زوجته تقوم من ورائه، وتبكي رحمة له.
وهذه باسة بنت الفضل زوجة الإمام أحمد؟! فقد قال عنها الإمام أحمد: أقمت مع أم صالح ثلاثين سنة، فما اختلفت أنا وهي في كلمة، ثم ماتت - رحمها الله -.
وهذه فاطمة بنت محمد بن أحمد بن أبي أحمد السمرقندي مؤلف التحفة تقدم وهي زوجة الإمام علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني صاحب البدائع، تقدم في الكنى تفقهت على أبيها، وحفظت مصنفة التحفة، قال ابن العديم: حكى والدي أنها كانت تنقل المذهب نقلاً جيداً، وكان زوجها الكاساني ربما يهم في الفتيا، فترده إلى الصواب، وتعرفه وجه الخطاء، فيرجع إلى قولها، قال: وكانت تفتي، وكان زوجها يحترمها ويكرمها، وكانت الفتوى أولاً يخرج عليها خطها وخط أبيها السمرقندي، فلما تزوجت بالكاساني صاحب البدائع كانت الفتوى يخرج بخطه الثلاثة، قال داود بن علي أحد فقهاء الحاوية بحلب: هي التي سنت الفطر في رمضان للفقهاء بالحلاوية، كان في يديها سواران، فأخرجتهما وباعتهما، وعملت بالثمن الفطور كل ليلة، واستمر على ذلك إلى اليوم، قال ابن العديم: أخبرني الفقيه أحمد بن يوسف بن محمد الأنصاري الحنفي قال: كان الكاساني عزم على العود من حلب إلى بلاده، فإن زوجته حثته على ذلك، فلما علم الملك العادل نور الدين محمود استدعاه، وسأله أن يقيم بحلب، فعرفة سبب السفر، وأنه لا يقدر أن يخالف زوجته ابنة شيخه، فاجتمع رأي الملك وزوجها الكاساني على إرسال خادم بحيث لا تحتجب منه، ويخبطها عن الملك في ذلك، فلما وصل الخادم إلى بابها استأذن عليها، فلم تأذن له، واحتجبت، وأرسلت إلى زوجها تقول له: بعد عهدك بالفقه إلى هذا الحد، أما تعلم أنه لا يحل أن ينظر إلى هذا الخادم، وأي فرق بينه وبين غيره من الرجال في جواز النظر، فعاد الخادم وذكر ذلك لزوجها بحضرة الملك، فأرسلوا إليها امرأة برسالة الملك نور الدين، فخاطبتها فأجابته إلى ذلك، وأقامت بحلب إلى أن ماتت، ثم مات زوجها الكاساني بعدها، ودفن عندها على ما قدمناه في ترجمته رحمة الله عليهما. طبقات الحنابلة 2/278.
قال الدكتور بشار عواد معروف في مقدمته - لتهذيب الكمال للمزي (ص 36) في ترجمة الإمام المزي: "فدفن هناك إلى جانب زوجته المرأة الصالحة الحافظة لكتاب الله، عائشة بنت إبراهيم بن صديق غربي قبر الشيخ تقي الدين ابن تيمية ".
وكانت زوجته عائشة قد توفيت قبله بتسعة أشهر تقريباً في مستهل جمادى الأولى سنة، وكانت عديمة النظير في نساء زمانها لكثرة عبادتها وتلاوتها وإقرائها القرآن الكريم بفصاحة وبلاغة وأداء صحيح، وختمت نساء كثيرات القرآن على يديها، وقرأ عليها من النساء خلق، وانتفعن بها وبصلاحها ودينها وزهدها في الدنيا، وتقللها منها مع طول العمر حيث بلغت ثمانين سنه، وكان المزي محسنا إليها مطيعا لا يكاد يخالفها لحبه لها طبعاً وشرعاً.
وهذا هو الإمام شافع بن علي بن عباس بن إسماعيل بن عساكر الكناني العسقلاني المصري، سبط القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، الإمام الأديب ناصر الدين، ولد سنة تسع وأربعين وستمائة، وتوفي سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة.
كان يباشر الإنشاء بمصر زماناً إلى أن أضر، لأنه أصابه سهم في نوبة حمص الكبرى سنة ثمانين وستمائة في صدغه، فعمي وبقي ملازم بيته إلى أن توفي، - رحمه الله -.
روى عن الشيخ جمال الدين بن مالك وغيره، وروى عنه الشيخ أثير الدين أبو حيان والشيخ علم الدين البرزالي وغيره من الطلبة، وله النظم الكثير والنثر الكثير، وكتب المنسوب، وكان جماعة للكتب، خلف ثمانية عشر خزانة مملوءة كتباً نفيسة أدبية، وكانت زوجته تعرف ثمن كل كتاب، وبقيت تبيع منها إلى سنة تسع وثلاثين وسبعمائة.وكان إذا لمس الكتاب وجسه قال: هذا الكتاب الفلاني وملكته في الوقت الفلاني، وكان إذا أراد أي مجلد كان قام إلى خزانته، وتناوله كأنه الآن وضعه بيده ابن شاكر الكتبي : فوات الوفيات 2/93
منقول ..