ما دام أن الله سبحانه جعل الابتلاء سنة في هذا الكون على جميع الخلق برهم وفاجرهم، فأفعاله كلها حكمة، فلا تكون إلا عن علم وحكمة، منها ما نعرفه ومنها ما تقصر عقولنا وأفهامنا عنه، وحسبنا أن نقول: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [البقرة:285].
والابتلاء والفتن من أفعال الله عز وجل، وتقديراته، التي كلها حكمة ورحمة، بخلاف ما إذا كانت من العبد كما تقدم في باب القضاء والقدر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " وليست البلايا والمصائب تأتي من طاعة الله ورسوله، كما يظن بعض الجهال؛ فإن هذه جزاء أصحابها خيري الدنيا والآخرة".[1]
ولكن قد تصيب المؤمنين بالله ورسوله مصائب بسبب ذنوبهم، لا بما أطاعوا فيه الله ورسوله، كما لحقهم يوم أُحد بسبب ذنوبهم، لا بسبب طاعتهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما ابتلوا به من السراء والضراء، والزلزال، ليس هو بسبب إيمانهم وطاعتهم، لكن امتحنوا به؛ ليتخلصوا مما فيهم من الشر وفتنوا به، كما يفتن الذهب بالنار؛ ليتميز خبيثه من طبيه، والنفوس فيها شر والامتحان يمحص المؤمن من ذلك الشر الذي في نفسه".[2]
لذلك كان من حكمة الابتلاء التمحيص، وهو كما قال الراغب[3]: " أصل المحص: تخليص الشيء مما فيه عيب".
قال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } [آل عمران:141]، وقال سبحانه: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:154].
فالتمحيص هنا كالتزكية والتطهير، ونحو ذلك من الألفاظ، ويقال في الدعاء "اللهم محص عنا ذنوبنا"،أي: أزل ما علق بنا من الذنوب[4].
فالمؤمن يمحص حتى يصدق، ويبتلى ويختبر حتى يخلص بالبلاء الذي نزل به، وكيف صبره ويقينه[5].
"والله يمحص المؤمنين بما يكفر عنهم من ذنوبهم، إن كانت لهم ذنوب، وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به".[6]
فهو تنقية لهم من الذنوب وآفات النفوس، كما أنه تخليص لهم من المنافقين، وتمييزهم عنهم،؛ فيحصل لهم تمحيصان: تمحيص من نفوسهم، وتمحيص ممن كان يظهر أنه من المسلمين[7]، وهذا ما سأوضحه في حكمة التمييز بين المؤمنين والكفار، فالتمحيص للمؤمنين يكون:
· بتكفير السيئات.
· أو برفعة الدرجات.
· أو بالتعويض من الله.
أما تكفير السيئات: فقد أخبر الله سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين أي: تخليصهم من ذنوبهم، بالتوبة والرجوع إليه، واستغفاره من الذنوب التي أُديل بها عليهم العدو[8].
وقد بين الله سبحانه وتعالى تكفيره لسيئات المؤمنين في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [العنكبوت:7]، وقد بين الله سبحانه أنه لابد للمؤمنين من الابتلاء كما تقدم.
قال ابن القيم: " إن ابتلاء المؤمن كالدواء له، يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصت ثوابه، وأنزلت درجته؛ فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به لتمام الأجر وعلو المنزلة، ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه[9]، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"[10].
فهذا الخير العظيم ليس إلا للمؤمن لأنه هو الذي يشكر ويصبر، فبذلك تكفر سيئاته كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة منها: ما روته عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه؛ حتى الشوكة يشاكها"[11].
وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة –رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه"[12].
وعن سعيد بن أبي وقاص –رضي الله عنه- عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال:" الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، من الناس يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة"[13].
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن المصائب والفتن التي تصيب المؤمن أنها من الله، حيث لا يقع في الكون كائن بغير مشيئته الحكيمة، ومن ذلك أن الله أعد للمؤمن فيها خيراً عظيماً، سواء بتكفير السيئات، أو برفعة الدرجات، إن صبر واحتسب، وإلا فيكون فتنة لغيره.
هل التكفير خاص بالصغائر أم للصغائر والكبائر:
قال ابن حجر عند إيراده لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من يرد الله به خيراً يصب منه"[14]، وما قبله من الأحاديث السابقة: "وفي هذه الأحاديث بشارة عظيمة لكل مؤمن؛ لأن الآدمي لا ينفك غالباً من ألم، بسبب مرض، أو هم، أو نحو ذلك، مما ذكر، وأن الأمراض والأوجاع والآلام –بدنية كانت أم قلبية- تكفر ذنوب من تقع له، وسيأتي في الباب الذي بعده من حديث ابن مسعود: "ما من مسلم يصيبه أذى إلا حاتّ الله عنه خطاياه"[15]، وظاهره تعميم جميع الذنوب، لكن الجمهور خصوا ذلك بالصغائر؛ للحديث.." الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر"[16].
فحملوا المطلقات الواردة في التكفير على هذا المقيد، ويحتمل أن يكون معنى الأحاديث التي ظاهرها التعميم: أن المذكورات صالحة لتكفير الذنوب، فيكفر الله بها ما شاء من الذنوب، ويكون كثرة التكفير وقلته باعتبار شدة البلاء وخفته"[17]ا.هـ
والذي يظهر: أن المصائب مكفرات للصغائر والكبائر؛ لعموم الأحاديث المتقدمة، وأما هذا الحديث فهو خاص بالأعمال المذكورة، ولا وجه لدخول عموم التكفير بالنسبة للمصائب بهذا إلا بدليل، لذلك قال بعض العلماء: إن المصائب مع تكفيرها السيئات ترفع الدرجات.
م/ن