بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين 00
خطبة الوداع.. النموذج الأسمى للتعايش الإنساني
كمال خليل - باحث مصري
مخطئ من يظن أن دين الإسلام أتى لقوم دون قوم، أو لبلد دون أخرى،
أو لفئة من البشر دون سائر الخليقة، والصواب الذي ينبغي أن يعلمه القاصي والداني، العربي والأعجمي، الأبيض والأسود أن قواعد الإسلام وأسسه جاءت لتبين للناس كافة المقاصد العليا من خلقهم، وأنه على الرغم من اختلاف العقائد التي أعطى الإسلام لكل إنسان حريته فيها، وفي نفس الوقت حمّله تبعات اختياره.. فإن الإسلام شجع الخلق على التعايش والتعارف في نطاق المساحات المشتركة بينهم، أعني بذلك مساحة الالتقاء الإنساني الذي يغلب عليه طابع المنافع المتبادلة والمصالح المشتركة.
ونظرة تحليلية في آيات القرآن الكريم التي تتعلق بهذا الشأن، وكذلك ما أعلنه الرسول الكريم " صلى الله عليه وسلم" في حجة الوداع.. تجعلك تعلم علم اليقين أن هذا الدين الإسلامي له الكثير من القوة والقدرة في التوجيه بنصوصه القاطعة- التي هي وحي من الله تعالى- نحو صلاح البشرية بأسرها، وتعايشها السلمي بعيدًا عن الهمجية التي نراها شرقًا وغربًا، وبعيدًا عن العنصرية التي ربما قتلت شعوبًا بكاملها بسبب ديانتها أو لونها أو جنسها.
ولقد خاطب الله رب العالمين البشر جميعا بقوله تعالى: {يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} (الحجرات: 13)، هذه الآية خاطب بها النبي " صلى الله عليه وسلم" الناس في فتح مكة، والملاحظ في النداء {يأيها الناس} أنه لم يخص به المسلمين أو العرب، ألا يعطينا ذلك مؤشرًا للتعايش الإنساني؟ والذي يطلع على خطبة حجة الوداع يلاحظ تكرار النداء من نبي الإنسانية " صلى الله عليه وسلم" ، فقد روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- أن رسول الله " صلى الله عليه وسلم" خطب الناس يوم النحر فقال: «يأيها الناس، أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام، قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام، قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، فأعادها مرارًا ثم رفع رأسه فقال: اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟». قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: فو الذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته، «فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض».
إن الدين الإسلامي تفرد بحرمة الاعتداء بغير وجه حق على أي أحد من الناس، قال الله تعالى: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} (البقرة : 190)، إلا إذا صدر الاعتداء من الآخر فينبغي على المسلمين أن يردوا هذا الاعتداء: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (البقرة: 194)، كذلك من قمة سماحة الإسلام وحسن تعامله مع الناس جميعا أنه أمر بأداء الأمانات والحقوق، وإقامة العدل، ولو على المسلمين أنفسهم، قال الله تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} (المائدة: 8).
ومن أسمى تعاليم النبي " صلى الله عليه وسلم" في حجة الوداع ما رواه أحمد في مسنده وصححه الألباني عن فضالة بن عبيد "رضي الله عنه" قال: قال رسول الله " صلى الله عليه وسلم" في حجة الوداع: «ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله تعالى، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب»، وهذه تعريفات جديدة ما كانت تخطر ببال الصحابة الأطهار قبل ذلك، وخلاصتها والهدف منها الحفاظ على المجتمع بما فيه ومن فيه، ولأن الإيمان أعلى رتبة من مرتبة الإسلام، فإن الذي اتصف بهذا الوصف جدير بأن يكون أمينًا مؤتمنًا على كل من حوله، فهو للحق نصير وظهير، أينما وجد هذا الحق، ولأي فرد يكون، وتأمل جيدًا قوله " صلى الله عليه وسلم" : «من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم»، فهل بعد هذا التعريف للمؤمن يتهم الإسلام بأنه دين يحب سفك الدماء وسلب الأموال وانتهاك الأعراض؟