هذا الدعاء يرويه الصحابي الجليل عمار بن ياسر رضي الله عنه ، فيقول :
( أَمَا إِنِّي قَدْ دَعَوْتُ فِيهِمَا – يعني في الركعتين - بِدُعَاءٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو بِهِ : اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي ، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي ، أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا ، وَالْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى ، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ ، وَمِنْ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ )
رواه أحمد في " المسند " (30/265) وصححه محققو طبعة مؤسسة الرسالة ، ورواه النسائي في " السنن " (رقم/1305): وفي لفظه بعض الزيادة :
( أَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ ) وصححه الشيخ الألباني في " صحيح النسائي " وكتب أخرى.
وقوله صلى الله عليه وسلم ( في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة ) احتراز عن أن يكون الشوق إلى لقاء الله سببه ضرر أو فتنة لحقت بالعبد ، بل يسأل الله شوقا إليه ، سبَبُهُ حبه سبحانه وتعالى ، ورجاءُ ما عنده من الفضل .
وقد شرح الحافظ ابن رجب جملا من هذا الدعاء في رسالة بعنوان : " شرح حديث لبيك الله لبيك " (ص/95)، فكان مما قاله :
" وإنما قال : ( من غير ضراء مضرة ، ولا فتنة مضلة ) لأن الشوق إلى لقاء الله يستلزم محبة الموت ، والموت يقع تمنيه كثيرا من أهل الدنيا بوقوع الضراء المضرة في الدنيا ، وإن كان منهيا عنه في الشرع ، ويقع من أهل الدين تمنيه لخشية الوقوع في الفتن المضلة ، فسأل تمني الموت خاليا من هذين الحالين ، وأن يكون ناشئا عن محض محبة الله ، والشوق إلى لقائه ، وقد حصل هذا المقام لكثير من السلف ، قال أبو الدرداء : أحب الموت اشتياقا إلى ربي . وقال أبو عتبة الخولاني : كان إخوانكم للقاء الله أحب إليهم من الشهد . وقالت رابعة : طالت عليَّ الأيام والليالي بالشوق إلى لقاء الله " انتهى.
ويقول الشوكاني رحمه الله في شرح هذا الدعاء :
" قوله : ( بعلمك الغيب ، وقدرتك على الخلق ) فيه دليل على جواز التوسل إليه تعالى بصفات كماله وخصال جلاله .
قوله : ( أحييني ) إلى قوله : ( خيرا لي ) هذا ثابت في الصحيحين من حديث أنس بلفظ : (اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني ما كانت الوفاة خيرا لي ) وهو يدل على جواز الدعاء بهذا ، لكن عند نزول الضرر ، كما وقع التقييد بذلك في حديث أنس المذكور المتفق عليه ، ولفظه : ( قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، فإن كان لا بد متمنيا فليقل : اللهم أحيني ) إلى آخره .
قوله : ( خشيتك في الغيب والشهادة ) أي : في مغيب الناس وحضورهم ؛ لأن الخشية بين الناس فقط ليست من الخشية لله ، بل من خشية الناس .
قوله : ( وكلمة الحق في الغضب والرضا ) إنما جمع بين الحالتين ؛ لأن الغضب ربما حال بين الإنسان وبين الصدع بالحق ، وكذلك الرضا ربما قاد في بعض الحالات إلى المداهنة وكتم كلمة الحق .
قوله : ( والقصد في الفقر والغنى ) القصد في كتب اللغة بمعنى : استقامة الطريق والاعتدال، وبمعنى ضد الإفراط ، وهو المناسب هنا ؛ لأن بطر الغنى ربما جر إلى الإفراط .
وعدم الصبر على الفقر ربما أوقع في التفريط ، فالقصد فيهما هو الطريقة القويمة .
قوله : ( والشوق إلى لقائك ) إنما سأله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه من موجبات محبة الله للقاء عبده ، لحديث : ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ) ومحبة الله تعالى لذلك من أسباب المغفرة .
قوله : ( مُضِرَّة ) إنما قيد صلى الله عليه وآله وسلم بذلك لأن الضراء ربما كانت نافعة آجلا أو عاجلا ، فلا يليق الاستعاذة منها .
قوله : ( مُضِلَّة ) وصفها صلى الله عليه وآله وسلم بذلك لأن من الفتن ما يكون من أسباب الهداية ، وهذا بهذا الاعتبار مما لا يستعاذ منه . قال أهل اللغة : الفتنة الامتحان والاختبار " انتهى.
" نيل الأوطار " (2/333)
وينظر : " فيض القدير " للمناوي (2/184-185)، " فقه الأدعية والأذكار" (3/160-165).
والله أعلم .
م/ن