بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
شهر كريم مبارك:
رمضان شهر كريم مبارك، صيامه ركن من أركان الإسلام؛ فلا عجب أن يكثر فيه كلام أهل العلم ببيان فضله وخيره وبركته وأحكام صيامه وقيامه وفضائله التي يتميز بها بين أشهر العام، وأن يفرد الكلام عنه بالتأليف كتبا ومقالات قديمة وحديثة تتجدد كلما عاد، وأحاديث تنشر وتذاع.
ويكثر كلام أهل العلوم المختلفة في هذا الشهر الفضيل، يحدثنا كل من زاوية علمه وخبرته ومجال تخصصه، عن فوائد الصوم الصحية على الجسم والروح والفكر، وعلى الفرد والجماعة، فهو مهذب النفس من الرذائل، ومغذي الروح بالقيم والفضائل، ومصفي الفكر من الأكدار؛ فيكون الإنسان متوازنا متوسطا معتدلا في كل شيء، والتوازن والتوسط والاعتدال فطرة إلهية مشهودة وطبيعة بشرية مرغوب فيها من كل ذي فطرة سليمة.
الكلام عن رمضان مع كثرته وطوله وتداخله، أكثره متفق عليه بين جميع البشر فضلا عن المسلمين، هذا من الناحية النظرية، ويوفق الله للعمل الصالح من شاء من عباده المؤمنين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسن، نسأل الله أن يجعلنا منهم بمنه وفضله وكرمه.
بين العادة والعبادة:
لا يحسن بالمسلم أن يجعل هذا الشهر الكريم وصيامه مجرد عادة تمر عليه كما تمر على الجميع، بل لا بد من الشعور العميق به من أركان النفس؛ فيكون صيامه شاملا، يصوم كله، نفسه وشعوره وجوارحه وقلبه وإحساسه صياما عاما عميقا فيه توجه إلى الله بالعبادة والصبر والشكر والدعاء والذكر؛ فهذه فرصة قد لا تتاح له مرة أخرى في حياته التي يمكن أن تنتهي في أي لحظة، فيشكر الله بلسانه وقلبه وجوارحه أن يوفقه في هذا الشهر العظيم والموسم الجليل من مواسم السبق إلى الخيرات.
محطة سنوية من محطات العمر:
يعد رمضان محطة سنوية مهمة، بل هي أهم محطات العام في عمر الإنسان، محطة استراحة للنفس والجسم والروح، محطة لتزويد النفس كلها وبكل جوانبها الحسية والمعنوية بالزاد المناسب مع المراجعة الدقيقة الشاملة لانطلاقة جديدة في دورة من دورات الحياة لمن من الله عليه بمدد في العمر، محطة للصيانة الدورية الشاملة لأجهزة النفس كلها؛ فقد اتفق أهل العلم على أن الصيام يفيد منه كل جهاز من أجهزة الإنسان الحسية والمعنوية على تفاوت بينها في تلك الإفادة؛ فلا يفوت الإنسان على نفسه فرصة الإفادة الكاملة من هذا الشهر الكريم المبارك؛ فقد لا يدركه مرة أخرى وإن أدركه فبعد عام كامل !
شهر المضاعفة:
رمضان ليس فيه شيء جديد لا يمكن فعله في غيره من شهور السنة؛ إذ يمكن لكل منا أن يصوم ويقوم الليل ويتصدق بما يقدر عليه ويكثر من الذكر والدعاء وغير ذلك من أعمال الخير، طيلة العام، ولكن الجديد في رمضان هو التضعيف والمضاعفة لكل شيء مما لا يوجد في غيره ! في رمضان تضاعف البركة والخير والتيسير والتوفيق والرزق، وهذا شيء مشاهد لا ينكر، كما يضاعف فيه المؤمن العمل الصالح كله مما لا يقدر على مثله في غير رمضان. في رمضان تصلي صلاة أخشع وتصوم صياما متواصلا شهرا كاملا وتقوم لياليه كلها وتكثر من نوافل الصلاة وذكر الله ودعائه وتلاوة القرآن وتدبر معانيه وتختمه أكثر من مرة ، كما تكثر من الصلاة والسلام على سيد الخلق محمد، ، وكذلك الصدقة والبر وصلة الأرحام، والدعوة والإرشاد والعلم والتعليم والتوجيه؛ فتعم الرحمة والخير والبركة أرجاء النفس والروح والفكر، وتجوس البركة خلال النفس والجماعة والأمة كلها، فلا يكون هذا كله في غير رمضان كما يكون فيه، بفضل الله ومنه ورحمته وتوفيقه وتيسيره على عباده المؤمنين.
شهر مختلف كله:
رمضان شهر مختلف في كل شيء عن الشهور الأخرى، تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب النيران وتصفد فيه مرة الشياطين، ليخلو الجو للعبادة والذكر وعمل الخير، وتصفو النفس لربها في خشوع وخضوع وإخلاص، وتنشط النفوس بتوفيق الله ما لا تنشط في غيره، فتقبل إلى ربها خاشعة مخلصة، تمتلئ المساجد بالمصلين والعباد والمعتكفين وترتفع الأصوات بالقرآن والذكر والدعاء، ويتوب الناس إلى ربهم متضرعين باكين !
شهر التواصي والتساوي:
في رمضان يكثر التواصي بالحق والتواصي بالصبر وبذل المعروف علما ومالا وجاها، كما يكثر التساوي بين الجميع بالصيام والقيام؛ فتزول الفروق بين المسلمين، يشعر الغني بحاجة الفقير والمسكين، فالمشاهد أن الصيام من أكثر ما يساوي بين الناس جميعا في الشعور والإحساس والآمال والأعمال، ويزيل ما يكون من فوارق بينهم في المأكل والمشرب وغيرهما، ولعل هذا من أهم أهداف الصيام الذي يصفي النفوس من أدرانها كلها ويجعلها مهيأة لفعل الخير وبذل المعروف من المال والعلم والعمل.
شهر التوازن والتوسط والاعتدال العام:
رمضان فرصة عظيمة لإعادة التوازن إلى النفس كلها، فلا إفراط ولا تفريط، وهذا من أهم ما ينبغي أن يعنى به المسلم في هذا الشهر الكريم، فلا من التوازن والتوسط بين العبادة لله والبر بعباده، وبين الخلو إلى النفس وخدمة الأهل وبر الوالدين وصلة الأرحام وأداء الأعمال الواجبة في العمل، فلا فوضى ولا تقصير في جانب على حساب جانب آخر، فصوم وصلاة وعبادة وذكر ودعاء إلى جانب عمل وبر وصلة وإنفاق ودعوة وإرشاد وتعلم وتعليم وإرشاد وتوجيه؛ في توازن تام وتناغم كامل بين حاجات الجسم والنفس والروح والفكر، وبين النفس والغير، إعطاء لكل ذي حق حقه دون إفراط أو تفريط، فالحمد لله على هذا الفضل العظيم.
المحروم في هذا الشهر من حرم التوازن والتوسط والاعتدال؛ فانشغل بشيء على حساب شيء، وألهاه حق عن حق، فصرفه شأن عن شأن ربما يكون أهم منه وأكثر خيرا وبركة ...فضلا عن أن تشغله أودية الباطل من النوم الطويل والمسلسلات الفارغة الماجنة واللهو واللعب... مما يبتلي به بعض العباد حتى في هذا الشهر الذي يشكو فيه المؤمنون المخلصون من ضيق الوقت ويشكو غيرهم من طوله وكثرة الفراغ فيه !
شهر المراجعة العامة والتخطيط:
راجع توازنك وتوسطك للعام كله في رمضان؛ فالعمر قصير والعمل كثير، والصوارف عن الحق لا تحصى ودواعي الباطل لا تعد كثرة، وإذا لم تشغل نفسك بالحق والخير والعمل الصالح شغلتك بالباطل واللهو وعمل السوء، راجع توازنك النفسي وتوسطك العلمي والعملي وضع لنفسك خطة للعلم والعلم في قادم العام الجديد،في هذا الشهر الشريف، والبدار البدار قبل أن تطلق مرة الشياطين من مصافدها الرمضانية، ويمضي موسم الخير والفضل والبركة، وتكثر الشغول والملهيات الصادات عن سبيل الله، وموسوسات الأمور الشاغلات للنفس والفكر والروح عن التفكير السليم في كل خير من العلم النافع والعمل الصالح.
وفقني الله وإياك، أيها القارئ الكريم الذي صبرت على قراءة هذا الكلام المهلل النسج الطويل الذيل القليل النيل.
وختاما: اللهم وفقنا بفضلك ورحمتك وجودك وطولك ومنّك، لما تحب وترضى، وبارك لنا في رمضان وأعنا فيه على كل خير واصرف عنا كل شر، فأنت أرحم الراحمين، لك الحمد كله وإليك يرجع الأمر كله ولك الفضل كله، يا كريم يا عظيم يا رحيم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اتبعه إلى يوم الدين.
سليمان خاطر