امتنع بعض كبار التابعين عن الكتابة مثل: عبيدة بن عمرو السلماني (ت72هـ ) وإبراهيم بن زيد (ت93هـ ) وإبراهيم بن يزيد النخعي (ت96هـ ) وعامر الشعبي (ت103هـ ). ولكن البعض الآخر منهم كان يكتب الحديث مثل: سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب (ت94هـ ) وعامر الشعبي والضحاك بن مزاحم (ت105هـ ) والحسن البصري (تهـ ) ومجاهد بن جبر (ت103هـ ) ورجاء بن حيوة (ت112هـ ) وعطاء بن أبي رباح (ت114هـ ) ونافع مولى ابن عمر (ت117هـ ). وقتادة السدوسي (ت118هـ ).
وبرز من جيل التابعين عدد من العلماء الذين اهتموا بكتابة الحديث، واحتفظوا بأجزاء وصحف كانوا يروونها مثل:
أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس الأسدي (ت126هـ ) الذي كتب بعض حديث الصحابي جابر بن عبد الله وحديث غيره.
وأبي العشراء الدارمي: أسامة بن مالك.
وأيوب بن أبي تميمة السختياني (ت131هـ ).
وأبي بردة بريد بن عبدالله بن أبي بردة.
وحميد بن أبي حميد الطويل (ت143هـ ).
وهشام بن عروة بن الزبير (ت146هـ ).
وأبي عثمان عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب (ت147هـ ).
وقد حملت كراهية بعض التابعين للكتابة على أنهم كرهوا تدوين آرائهم وفتاويهم مع الحديث، وكذلك خوفهم من الاعتماد على الكراريس وإهمال الحفظ.
وقد سعى عبد العزيز بن مروان والي مصر (وليها من سنة 65هـ إلى سنة 85هـ ) إلى جمع الحديث وتدوينه، فكتب إلى كثير بن مرة الحضرمي الذي أدرك سبعين بدرياً أن يكتب له ما سمعه من أحاديث الصحابة سوى أبي هريرة لأن حديثه كان مجموعا عنده، ولكننا لا نعلم شيئا عن نتيجة هذه المحاولة. ثم جاء ابنه عمر بن عبد العزيز بن مروان إلى الخلافة، فكتب إلى أبي بكر بن حزم عامله على المدينة: "انظر ماكان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سنة ماضية، أو حديث عَمْرة فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب أهله ". وأراد منه أن يكتب ما عنده عَمْرة بنت عبد الرحمن الأنصارية (ت98هـ ) والقاسم بن محمد بن أبي بكر ( ت120هـ ).
وكتب عمر إلى علماء المدن الإسلامية الأخرى:" انظروا إلى حديث رسول الله فاجمعوه ".
ولكن عمر بن عبد العزيز عاجلته المنية قبل أن يبعث إليه أبو بكر بن حزم بما جمعه. وعلى أية حال فإن هذا الجمع لم يكن شاملاً.
أما المحاولة الشاملة فقد قام بها إمام جليل آخر هو ابن شهاب الزهري ( ت124هـ ) حيث استجاب لطلب عمر بن عبد العزيز، وكان شغوفاً بجمع الحديث والسيرة فجمع حديث المدينة وقدمه إلى عمر بن عبد العزيز الذي بعث إلى كل أرض دفتراً من دفاتره. وكانت هذه هي المحاولة الأولى لجمع الحديث وتدوينه بشمول واستقصاء. وبذلك مهد الطريق لمن أعقبه من العلماء المصنفين في القرن الثاني الهجري حيث نشطت حركة تدوين الحديث ودأب العلماء على ذلك. وكان لفشو الوضع في الحديث أثر في تأكيدهم على التدوين، حفظاً للسنة ومنعاً للتلاعب فيها.
وممن اشتهر بوضع مصنفات في الحديث:
1. محمد بن إسحاق (ت151هـ ) بالمدينة وهو: صاحب السيرة النبوية المشهورة باسمه، وقد اختصرها ابن هشام.
2. الإمام مالك بن أنس (ت179هـ ) بالمدينة حيث صنف (الموطأ ) "وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز " وهو مطبوع.
3. عبد الله بن المبارك (ت181هـ ) بخراسان.
4. عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت 211هـ ) في كتابه الشمهور (المصنف ).
5. سعيد بن منصور صاحب السنن. وهو مطبوع باسم: سنن سعيد بن منصور.
6. ابن أبي شيبة صاحب المصنف المعروف بمصنف أبي شيبة.
"وكانت طريقتهم في جمع الحديث أنهم يضعون الأحاديث في باب واحد، ثم يضعون جملة من الأبواب بعضها إلى بعض، ويجعلونها في مصنف واحد، ويخلطون الأحاديث بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ". وقد حملت هذه المصنفات الأولى عناوين مثل (مصنف ) و (سنن ) و (موطأ ) و (جامع ) وجمعت مادتها من الأجزاء والصحف التي دونت قبل مرحلة التصنيف.
وفي القرن الثالث الهجري استمر نشاط العلماء في التدوين وبدأوا يقصرون المصنفات على الأحاديث حاذفين أقوال الصحابة والتابعين من كتب الحديث، وقد رتبوا الأحاديث على طريقة المسانيد بأن جمعوا أحاديث كل صحابي على حدة وإن تباينت المواضيع التي تناولتها، وممن عرف من أوائل المصنفين للمسانيد:
1. أبو داود الطيالسي (ت204هـ ).
2. عبد الله بن الزبير الحميدي (ت219هـ ).
3. أحمد بن حنبل (ت240هـ )، وهو المسند المشهور المتداول.
4. خليفة بن خياط (ت240هـ ).
5. عبد بن حميد (249هـ ).
6. عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (ت255هـ )، طبع منه المجلد الأول.
7. أبو بكر أحمد بن عمرو البزار (ت292هـ ).
8. أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت327هـ ).
9. أبو سعيد الهيثم بن كليب بن شريح الشاشي (ت335هـ )في المسند الكبير.
وقد وصلت إلينا بعض هذه المسانيد ولا يمكن الجزم بفقدان المصنفات والمسانيد الأخرى، فهناك الألوف من المخطوطات العربية في مكتبات اسطنبول والمغرب والمكتبات الأخرى في أرجاء العالم، التي لا توجد لدينا فهارس شاملة عن بعضها وقد يكون فيها بعض المصنفات والمسانيد التي نحسبها مفقودة.
وعلى أية حال فإن هذه المسانيد لم تقتصر على جمع الحديث الصحيح، بل احتوت على الأحاديث الضعيفة أيضاً، مما يجعل من الصعوبة الافادة منها إلا من قبل العلماء المتضلعين في الحديث وعلومه، وكذلك فإن طريقة الترتيب تجعل من الصعوبة الوقوف على أحاديث حكم معين، لأنها لم ترتب على أبواب الفقه. مما حدا بالإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ ) إلى تصنيف كتابه (الصحيح ) الذي يقتصر على الأحاديث الصحيحة وإن كان لا يستوفيها جميعاً، وجرى على منواله الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري(ت 361هـ ) في صحيحه، وقد رتبا صحيحهما على أبواب الفقه تسهيلاً على العلماء والفقهاء عند الرجوع إليهما في حكم معين.
وقد اعتبر العلماء صحيحي البخاري ومسلم أصح كتب الحديث، وقد اعتمد كل منهما في تصنيف كتابه على كتب المسانيد وصحف الحديث الأخرى التي تلقاها سماعاً عن شيوخه الذين صنفوها أو نقلوها عن مصنفيها بإسنادهم إليهم، إضافة إلى الروايات الشفهية التي أضافها كل من البخاري ومسلم إلى صحيحيهما، وبذلك حفظا مادة كثير من كتب المسانيد المفقودة.
وقد تابعهم في الترتيب على أبواب الفقه معاصروهم والمتأخرون عنهم مثل:
1. ابن ماجة، محمد بن يزيد، (ت273هـ ) في سننه.
2. أبو دواد، سليمان بن الأشعث السجستاني، (ت275هـ ) في السنن.
3. الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة السلمي، (ت 279 هـ ) في جامعه.
4. النسائي، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي، (ت 303 هـ ) في سننه.
وقد اعتبر العلماء القرن الثالث أسعد عصور السنة وأزهاها، ففيه دونت الكتب الستة التي اعتمدتها الأمة، ونشطت رحلة العلماء، وكان اعتمادهم على الحفظ والتدوين معاً، فكان النشاط العلمي قوياً خلاله، فبرز العلماء والنقاد وتجلت ثمار هذا النشاط في تدوين الصحاح. وقد اقتصر دور العلماء في القرون التالية على الجمع بين كتب السابقين أو اختصارها بحذف الأسانيد أو تهذيبها أو إعادة ترتيبها، وهكذا أنصب اهتمامهم على الكتب المدونة، وقلت بينهم الرواية الشفهية، لذلك اعتبر الحافظ الذهبي رأس سنة ثلثمائة للهجرة الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين من نقاد الحديث.
م/ن