تحدث أهل التاريخ والأخبار عن عملاق من زمن آدم، أدرك طوفان نوح، ونجا منه، وبقي حيا يُرزق إلى أن قضى موسى عليه. تردّد اسمه في كتب التفسير، ونسج الرواة من حوله قصصا عجيبة شكّلت مع الزمن أساسا لروايات جديدة يصعب تحديد مصادرها الأصلية. استعاد الرسامون قصته في العديد من المنمنمات، وصوّروه وهو يرفع الصخرة التي تهاوت على رأسه قبل أن يضربه كليم الله بعصاه ويقتله.
هو في "لسان العرب" عوج بن عوق، "رجل ذَكَر من عظم خلقه شناعة، وذُكر أنه كان ولد في منزل آدم فعاش إلى زمن موسى عليه الصلاة والسلام، وأنه هلك على عدّان (أي عهد) موسى صلوات الله على نبيّنا وعليه، وذكر أن عوج بن عوق كان يكون مع فراعنة مصر ويقال كان صاحب الصخرة أراد أن يلحقها على عسكر موسى عليه السلام، وهو الذي قتله موسى". اختلفت الروايات في تحديد نسبه، وأشهرها ما نقله عبد الملك العاصمي في "سمط النجوم العوالي": "أمه عنق بنت آدم لصلبه، وقيل اسمها عناق، وهي أول بغيّ على وجه الأرض من ولد آدم. عملت السحر وجاهرت بالمعاصي. فلما بغت، خلق الله لها أسودا كالفيلة وذئابا كالإبل ونسورا كالحمّر فسلّطهم عليها فقتلوها وأكلوها". استحسنها إبليس وتقرّب منها، "فسارت معه إلى عند قابيل وولده، فلم تمنع من جاءها عن نفسها حتى حملت بعوج، وأراد الله أن يجعله حديثا في الأرض فولدته أعظم منها". لم تعلم عناق ممن حملت، فنُسب عوج إليها، "فربّته حتى عَظم وقوي وبقي يطوف الأرض جبلا جبلا". قيل إن طوله "ثلاثة ألاف وثلاثمائة وثلاثين ذراعا وثلث ذراع"، وقيل إنه كان يحتجز السحاب ويشرب منها، "وكان يضرب بيده فيأخذ الحوت من قاع البحر ثم يرفعه إلى السماء فيشويه بعين الشمس فيأكله". نجا من الطوفان في زمن نوح، وحارب العديد من الأنبياء، وكانت نهايته حين رفع الجبل ليرمي عسكر موسى بالجبل، "فجعله الله طوقا في عنقه، وقتله موسى".
من نوح إلى موسى
يتردّد اسم عوج بن عنق في أشهر كتب التاريخ والتفسير. في شرح لمعاني سورة القمر، يقول القرطبي: "كان الغرق جزاء وعقابا لمن كفر بالله، وما نجا من الغرق غير عوج بن عنق. كان الماء إلى حجزته. وسبب نجاته أن نوحا احتاج إلى خشبة الساج لبناء السفينة فلم يمكنه حملها، فحمل عوج تلك الخشبة إليه من الشام فشكر الله له ذلك، ونجاه من الغرق". وفي رواية أخرى نقلها العاصمي، جاء عوج إلى نوح مستغيثا ليحمله في السفينة، فخاف نوح منه، "فقال له عوج: لا بأس عليك يا نوح مني، دعني امشي مع سفينتك، فإني أعلم أن سفينتك لا تسعني ولا تحملني. فأوحى الله إلى نوح: ذر عوجا ولا تخف منه فانه لا قدرة له عليك. فقال له نوح: ضع يدك على مؤخرة السفينة فإن الله قد أمرني بذلك. فبلغ الماء ركبتيه".
في شرح سورة المائدة، تتكرّر قصة موسى مع عوج في العديد من كتب التفسير، تبعا لرواية نقلها الطبري. نقرأ في تاريخ ابن الاثير: "ثم إنّ الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يسير ببني إسرائيل إلى أريحا بلد الجبّارين، وهي أرض بيت المقدس، فساروا حتى كانوا قريباً منهم، فبعث موسى اثني عشر نقيباً من سائر أسباط بني إسرائيل، فساروا ليأتوا بخبر الجبّارين، فلقيهم رجل من الجبّارين يقال له: عوج بن عناق، فأخذ الاثني عشر، فحملهم وانطلق بهم إلى امرأته فقال: انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنّهم يريدون أن يقاتلونا. وأراد أن يطأهم برجله، فمنعته امرأته وقالت: أطلقهم ليرجعوا ويخبروا قومهم بما رأوا. ففعل ذلك، فلمّا خرجوا قال بعضهم لبعض: إنّكم إن أخبرتم بني إسرائيل بخبر هؤلاء لا يقدموا عليهم، فاكتموا الأمر عنهم. وتعاهدوا على ذلك ورجعوا، فنكث عشرة منهم العهد وأخبروا بما رأوا، وكتم رجلان منهم، وهما: يوشع بن نون وكالب بن يوفنّا ختن موسى (زوج أخته)، ولم يخبروا إلاّ موسى وهارون. فلمّا سمع بنو إسرائيل الخبر عن الجبّارين امتنعوا عن المسير إليهم، فقال لهم موسى: "يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين" (21)، "قالوا: يا موسى إنّ فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون" (22). قال رجلان، وهما يوشع وكالب، "من الذين يخافون أنعم الله عليهما: ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون. وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين" (23). "قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون" (24). فغضب موسى، فدعا عليهم، فقال: "رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي، فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين" (25)، وكانت عجلة من موسى، فقال الله تعالى: "فإنها محرمة عليهم أربعين سنةً يتيهون في الأرض" (26).
تاه شعب إسرائيل في الصحراء أربعين سنة، ولما خرج من التيه، التقى موسى بعوج وقضى عليه. ينقل الطبري حديثين يشهدان لهذه الخاتمة. الحديث الأول مصدره نوف، وفيه: "كان سرير عوج ثمانمائة ذراع، وكان طول موسى عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع، ووثب في السماء عشرة أذرع، فضرب عوجاً فأصاب كعبه، فسقط ميتاً، فكان جسراً للناس يمرُّون عليه". والحديث الثاني مصدره ابن عباس، وفيه: "كانت عصا موسى عشرة أذرع، ووثبته عشرة أذرع، وطوله عشرة أذرع، فوثب فأصاب كعب عوج فقتله، فكان جسراً لأهل النيل سنة". في رواية مشابهة نقلها القرطبي في تفسيره، اقتلع عوج "صخرة على قدر عسكر موسى ليرضخهم بها، فبعث الله طائرا فنقرها ووقعت في عنقه فصرعته. وأقبل موسى عليه السلام، وطوله عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع، وترقّى في السماء عشرة أذرع فما أصاب إلا كعبه وهو مصروع فقتله". في صياغة أخرى لهذه القصة نقلها الأشبهي في "المستطرف في كل فن مستظرف"، أتى عوج بقطعة من الجبل، واحتملها على رأسه ليلقيها على معسكر بني إسرائيل، "فبعث الله طيرا في منقاره حجر مدوّر، فوضعه على الحجر الذي على رأسه، فانثقب من وسطه وانخرق في عنقه".
الجبل العظيم
يظهر عوج بن عوق وهو يتهاوى صريعا أمام موسى في نسخة عربية مزوّقة من "جامع التواريخ" تعود إلى عام 1314، مصدرها تبريز، وهي من محفوظات مكتبة أدنبرغ. في نسخة فارسية من هذا الكتاب أُنجزت في عام 1318، نرى موسى وهو يتقدّم شاهراً عصاه، بينما يرفع عوج الصخرة التي انثقبت وتحوّلت إلى طوق حول عنقه. تتكرّر الصورة في العديد من نسخ "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات"، كما في نسخة من نسخ "قصص الأنبياء" المحفوظة في سرايا توبكابي، في اسطنبول. يتغير المشهد في نسخة من "تاريخ حافظ أبرو" أنجزت في النصف الأول من القرن الخامس عشر. على وجه الورقة الثالثة والعشرين، يقف عوج بن عوق وسط مياه الطوفان، محاولا منع سفينة نوح من التقدّم. جاء في كتاب "الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل": "لما دخل نوح ومن معه السفينة، فتح الله عز وجل عيون الماء ففارت الأرض من البحار، وأمطر الله من السماء ماء فارتفع الماء، وجعلت الفلك تجري بهم كموج، كالجبال. وعلا الماء على رؤوس الجبال أربعين ذراعاً، فهلك كل من على وجه الأرض من حيوان ونبات سوى عوج ابن عناق. ولم يغرقه الطوفان، ولا بلغ بعض جسده، وطلب السفينة ليغرقها، وكان ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعاً وثلث ذراع. وعاش ثلاثة آلاف سنة، وعمّر إلى زمان فرعون، وقطع صخرة على قدر عسكر موسى عليه السلام ليطرحها عليهم، وكان المعسكر فرسخاً في فرسخ، فأرسل الله طيرا فنقر الصخرة، فنزلت من رأسه إلى عنقه ومنعته الحركة، فوثب موسى وكانت وثبته عشرة أذرع، وطوله مثل ذلك، وطول عصاه مثل ذلك، ولم يلحق سوى عرقوبه (أي ركبته) فقتله وتركه بموضعه، وردم عليه بالصخر والرمل، فكان كالجبل العظيم في صحراء مصر"
م/ن