يقول الله - جل في علاه -: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}1، فجعل أقرب الناس إلى نيل رحمته هم أهل الإحسان، والطاعة، والعبادة، الذين هم أولى بقربه - سبحانه وتعالى -، والأمر كذلك بالنسبة لكل مسلم يعلم حقيقة أن الدنيا زائلة، فتراه حريصاً على نيل رحمة الله، يعرِّض نفسه لها بأي وسيلة ممكنة بحيث لا يعلم طريقاً يوصل إليها إلا سلكه، ولا حبلاً ينتهي إليها إلا تمسك به، حياته كلها مسخرة للسعي في طلب رضوان الله - تعالى - ممتثلاً قوله - تعالى -: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}2، وقوله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}3.
والسعيد هو من أدرك أن هذه الحياة الدنيا هي دار عمل وتحصيل لكل ما ينفع عند لقاء الله {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}4، فيجتهد فيها كل الاجتهاد، ومن ذلك اغتنامه لمواطن الرحمة، وأماكن المغفرة، ومظان العفو، فلا يضيعها أبداً.
ونحن في نفحات ربانية ينعم الله بها على أهل طاعته من أهل الإيمان، ويجعلها لأهل القرب منه من أهل الإحسان، إنها نفحات من فيض العشر الأواخر من رمضان، إنها خاتمة الشهر الكريم الذي {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}5، نعم في ذلك فليتنافس المتنافسون، في ذلك فليسارع المتقون {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}6، في ذلك فليبادر الأذكياء الحصيفون الذين يطلبون رحمة الله من حيث تطلب {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}7.
وإن العشر الأواخر من رمضان هي الليالي التي طالما انتظرها أهل رمضان بما فيها من أجواء إيمانية تسري فيها الروح إلى مقامات علية من التعبد والتذلل بين يدي الله - عز وجل -، إنها العشر التي لها المكانة الخاصة في قلوب المؤمنين، ولها القدر العظيم لأنها تحمل في طياتها أعظم ليلة "ليلة القدر".
وهذه العشر قد عَلِمَ مكانتها الصالحون؛ فغيروا نمط حياتهم اليومية، وجعلوا لها تعاملاً خاصاً يميزها عن غيرها، فهذا النبي - صلى الله عليه وسلم - إمام المتقين، وأسرع المسارعين إلى رضوان رب العالمين، وقدوة المتعبدين، وصاحب المقام الأعلى في عليين؛ تحكي لنا الصديقة عائشة - رضي الله عنها - كيف كان يفعل إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان فتقول: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العشر؛ أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدَّ، وشد المئزر"8، أليس هو الذي قال عنه نفسه - صلى الله عليه وسلم -: ((أصلي وأرقد))9، لكنه لما عَلِمَ مكانة العشر وما فيها الرحمات والهبات؛ كان يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها، (أحيا ليله) "أي: سَهِرَهُ فأحياه بالطاعة، وأحيا نفسه بسهره فيه، لأن النوم أخو الموت، والمعنى: أحياه بالقيام والتعبد لله رب العالمين، وأما ما ورد من النهي عن قيام الليل كلّه الوارد في حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -10 فهو محمول على من داوم عليه جميع ليالي السنة11"12.
ولم ينفرد - صلى الله عليه وسلم - في الحرص على اغتنام العشر الأواخر من رمضان لنفسه فقط، بل كان حريصاً على أن يوقظ أهله، ويحثهم على العبادة، واغتنام الفرصة، وفي الحديث: ((وجدَّ)) دلالة على شدة الاجتهاد الذي كان عليه - صلى الله عليه وسلم -، حتى أنه كان يعتزل النساء لعدم تفرغه لهن ((وشد المئزر)).
فإذا كان رمضان أياماً معدودات كما قال الله في كتابه الكريم: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ}13، فماذا نقول عن العشر الأواخر أليست هي ثلث رمضان؟ فما كان من اجتهاد في رمضان فلابد أن يتضاعف في هذه العشر.
هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان يلتمس في اعتكافه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشر الأوسط من رمضان يلتمس ليلة القدر قبل أن تبان له.. الحديث"14، يفعل ذلك وهو من قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أفلا نحرص نحن على أن نتشبه به فننهل من فيض هذه العشر ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، نحيي لياليها بالقيام وقراءة القرآن، والذكر والاستغفار، والدعاء وطلب الحاجات من رب العالمين، نرجو عفو ربنا في ليلة عظيمة مباركة تقول عائشة - رضي الله عنها -: يا رسول الله أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أدعو؟ قال: ((تقولين: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني))15.
نسأل الله أن يعفو عنا، وأن يجعلنا ممن يقوم ليلة القدر إيماناً واحتساباً، اللهم اجعل خاتمة رمضان لنا خاتمة بر وتقوى، وأخرجنا منه بذنب مغفور، وسعي مشكور، وعمل صالح متقبل مبرور.
م/ن