ـ هل صلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الشهداء ؟
قال البخاري : بَاب الصَّلاةِ عَلَى الشَّهِيدِ .
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ :
(( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ،
ثُمَّ يَقُولُ : أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ ،
فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ ،
وَقَالَ : أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا ، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ )) [1] .
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ :
(( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ،
ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ : إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الآنَ ،
وَإِنِّي أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ أَوْ مَفَاتِيحَ الأَرْضِ ،
وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا )) [2] .
قال الحافظ : قَوْله (بَاب الصَّلاة عَلَى الشُّهَدَاء)
قَالَ الزَّيْن بْن الْمُنِير : أَرَادَ بَاب حُكْم الصَّلاة عَلَى الشَّهِيد , وَلِذَلِكَ أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيث جَابِر الدَّالّ عَلَى نَفْيهَا ,
وَحَدِيث عُقْبَة الدَّالّ عَلَى إِثْبَاتهَا
قَالَ : وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بَاب مَشْرُوعِيَّة الصَّلاة عَلَى الشَّهِيد فِي قَبْره لا قَبْل دَفْنه عَمَلاً بِظَاهِرِ الْحَدِيثَيْنِ .
وَالْخِلاف فِي الصَّلاة عَلَى قَتِيل مَعْرَكَة الْكُفَّار مَشْهُور ,
قَالَ التِّرْمِذِيّ : قَالَ بَعْضهمْ يُصَلَّى عَلَى الشَّهِيد وَهُوَ قَوْل الْكُوفِيِّينَ وَإِسْحَاق ,
وَقَالَ بَعْضهمْ لا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْل الْمَدَنِيِّينَ وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد ,
وَقَالَ الشَّافِعِيّ فِي " الأُمّ " جَاءَتْ الأَخْبَار كَأَنَّهَا عِيَان مِنْ وُجُوه مُتَوَاتِرَة أَنَّ النَّبِيّ لَمْ يُصَلِّ عَلَى قَتْلَى أُحُد ,
وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِمْ وَكَبَّرَ عَلَى حَمْزَة سَبْعِينَ تَكْبِيرَة لا يَصِحّ .
وَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لِمَنْ عَارَضَ بِذَلِكَ هَذِهِ الأَحَادِيث الصَّحِيحَة أَنْ يَسْتَحِي عَلَى نَفْسه .
قَالَ : وَأَمَّا حَدِيث عُقْبَة بْن عَامِر فَقَدْ وَقَعَ فِي نَفْس الْحَدِيث أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْد ثَمَان سِنِينَ ,
يَعْنِي وَالْمُخَالِف يَقُول لا يُصَلَّى عَلَى الْقَبْر إِذَا طَالَتْ الْمُدَّة .
قَالَ وَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ حِين عَلِمَ قُرْب أَجَله مُوَدِّعًا لَهُمْ بِذَلِكَ ,
وَلا يَدُلّ ذَلِكَ عَلَى نَسْخ الْحُكْم الثَّابِت اِنْتَهَى .
ثُمَّ إِنَّ الْخِلاف فِي ذَلِكَ فِي مَنْع الصَّلاة عَلَيْهِمْ عَلَى الأَصَحّ عِنْد الشَّافِعِيَّة ,
وَفِي وَجْه أَنَّ الْخِلاف فِي الاسْتِحْبَاب وَهُوَ الْمَنْقُول عَنْ الْحَنَابِلَة , قَالَ الْمَاوَرْدِيّ عَنْ أَحْمَد :
الصَّلاة عَلَى الشَّهِيد أَجْوَد , وَإِنْ لَمْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ أَجْزَأَ . [3]
وقال : وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّة الصَّلاة عَلَى الشُّهَدَاء وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَاب الشَّافِعِيّ عَنْهُ بِمَا لا مَزِيد عَلَيْهِ .
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ : مَعْنَى صَلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ لا يَخْلُو مِنْ ثَلاثَة مَعَانٍ :
1ـ إِمَّا أَنْ يَكُون نَاسِخًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَرْك الصَّلاة عَلَيْهِمْ .
2ـ أَوْ يَكُون مِنْ سُنَّتهمْ أَنْ لا يُصَلِّي عَلَيْهِمْ إِلا بَعْد هَذِهِ الْمُدَّة الْمَذْكُورَة .
3ـ أَوْ تَكُون الصَّلاة عَلَيْهِمْ جَائِزَة بِخِلافِ غَيْرهمْ فَإِنَّهَا وَاجِبَة .
وَأَيّهَا كَانَ فَقَدْ ثَبَتَ بِصَلاتِهِ عَلَيْهِمْ الصَّلاة عَلَى الشُّهَدَاء .
ثُمَّ كَانَ الْكَلام بَيْن الْمُخْتَلِفِينَ فِي عَصْرنَا إِنَّمَا هُوَ فِي الصَّلاة عَلَيْهِمْ قَبْل دَفْنهمْ ,
وَإِذَا ثَبَتَتْ الصَّلاة عَلَيْهِمْ بَعْد الدَّفْن كَانَتْ قَبْل الدَّفْن أَوْلَى اِنْتَهَى .
وَغَالِب مَا ذَكَرَهُ بِصَدَدِ الْمَنْع - لا سِيَّمَا فِي دَعْوَى الْحَصْر - فَإِنَّ صَلاته عَلَيْهِمْ تَحْتَمِل أُمُورًا أُخَر :
ـ مِنْهَا أَنْ تَكُون مِنْ خَصَائِصه .
ـ وَمِنْهَا أَنْ تَكُون بِمَعْنَى الدُّعَاء كَمَا تَقَدَّمَ .
ثُمَّ هِيَ وَاقِعَة عَيْن لا عُمُوم فِيهَا , فَكَيْفَ يَنْتَهِض الاحْتِجَاج بِهَا لِدَفْعِ حُكْم قَدْ تَقَرَّرَ ؟
وَلَمْ يَقُلْ أَحَد مِنْ الْعُلَمَاء بِالاحْتِمَالِ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ
وَاَللَّه أَعْلَم .
قَالَ النَّوَوِيّ : الْمُرَاد بِالصَّلاةِ هُنَا الدُّعَاء ,
وَأَمَّا كَوْنه مِثْل الَّذِي عَلَى الْمَيِّت فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ دَعَا لَهُمْ بِمِثْلِ الدُّعَاء الَّذِي كَانَتْ عَادَتْهُ أَنْ يَدْعُو بِهِ لِلْمَوْتَى . [4]
[1] رواه البخاري (1343) .
[2] رواه البخاري (1344) .
[3] الفتح (3/249) .
[4] الفتح (3/250) .