بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين 00
كيف نعي فن الرياضة الروحية ؟
الوعي العادي هو في الواقع سبات روحي، ، ولا يمكن تحقيق اليقظة إلا من خلال الخبرة الشخصية المباشرة. ليس بوسع أحد سوانا أن يوقظنا؛ بوسعنا فقط أن نوقظ أنفسنا.
كلَّما فكَّرنا تفكيراً مثنوياً تغيَّر إطارنا المرجعي تغيُّراً يتربص بنا. عندما أعتقد أني منخرط في رياضة روحية فإني أقحِم صوتاً خافتاً يقول: "الآن أقوم برياضتي." وليس مهَمَّاً إن قلت هذه الكلمات بعينها؛ إذ إن الأمر حالة وعي أكثر منه شيئاً آخر. في هذا النموذج المثنوي، ما إن أنتهي من رياضتي حتى أكفَّ عن القيام بجهد للانتباه، وسرعان ما أعود إلى حالتي الذهنية الاعتيادية، الرتيبة، المشروطة بالكلِّية.
: "المرشد لا يتقدَّمك في السير بل يسايرك."
كلَّ منبِّه يدخل حواسنا، كلَّ خاطر يخطر في بالنا، هو رسالة من معلِّمنا الكامل.. لا حاجة بنا إلى انتظار وصول أحدهم، ولا حاجة بنا إلى السفر بحثاً عن معلِّم؛ فالمعلِّم الكامل هنا في هذه اللحظة وأنت تقرأ هذه الكلمات.
قفْ للحظة وحسب. دَعِ البصيرة تنبلج مما يحدث. كيف أنت جالس؟ تتحِسَّ ضغط الكرسي، أو الأريكة، أو الأرض، وإذا كنت تقرأ من جهازك ، اشعرْ بملمس الفأرة في يدك، لاحِظ ما يحدث في الذهن، ارصُدْ رفيف الانفعالات، اختبِر كيف يقاوم الذهن، يُذعِن ويضيِّق على نفسه. وفيما البصيرة تنير ما يحدث من لحظة للحظة، تذكَّر شيئاً واحداً: المرشد المثالي لا يتواصل باللغة العادية أو برموز واضحة؛ إنه يستعمل المجاز والاستعارة والقياس – إنه شاعر يستعمل لغة الأحداث والخواطر والمشاعر والأفعال. فإذا كنت راغباً، خُذْ دقيقة من وقتك وارصُدْ عن كثب شديد ما يحدث في ذهنك وجسمك الآن ، مفترضاً أن أستاذك يتواصل معك. قد ترغب في إغماض عينيك إذا كان ذلك يساعد، محاولاً ملاحظة كلِّ خاطرة تأتيك .
لقد أنجزت لتوِّك المهمة المركزية لتعلُّم كيفية تعزيز اليقظة الروحية. كل لحظة نلحظ فيها ما يحدث في الجسم–الذهن، في بيئتنا المباشرة، في استجاباتنا للمنبِّهات، أو في حالة وجودنا بعامة، فإننا نكون في سيرورة اليقظة؛ وكل لحظة تنعدم فيها ملاحظتُنا، نكون فيها نائمين.
لعلَّك اكتشفتَ أنه ليس من الصعب استدعاء البصيرة إلى الواعية. فالبصيرة هي صديقتنا المسعِفة المخلصة، الحاضرة أبداً عند الطلب. وأنت تقرأ، دعِ البصيرة تصغي إلى الأصوات البعيدة . لاحظ أنك الآن ربما تسمع شيئاً لم تكن تدرك أنك تسمعه قبل بضع ثوانٍ. باستطاعتك أن تسمع هذا الصوت وأنت تواصل القراءة في الوقت نفسه.
عندما تكون هناك حساسية تامة للذهن ككل، عندئذٍ سوف نتصرف على نحو مختلف؛ تفكيرنا وشعورنا سوف يكونان من بُعْدٍ مختلف كلية. إنما ليس ثمة منهج... عندما ندرك هذا نتحرر من العبء الضخم لكل سلطة وبذلك نتحرر من الماضي... ماذا على المرء أن يفعل؟ كل ما على المرء أن يفعله هو أن يبصر. أن يبصر الزاوية، البيت الصغير الذي ابتناه المرء في زاوية حقل شاسع ، لا يقاس وعاش فيه مقاتلاً، منازعاً، محسِّناً، أن يبصر ذلك... ما يهم إذن ليس هو التعلُّم بل البصر والسمع... إذا استطعت أن تبصر، ليس عليك أن تفعل غير ذلك، لأن في ذلك الإبصار كل الانضباط ، كل الفضيلة... كل الجمال... عندئذٍ حيثما تكون فالسماء لك؛ وعندها يوضَع حدٌّ لكل سعي.
ليس بمقدورنا أن نبتَّ فيما إذا كان ما يعتبره العالم "سعادة" هو سعادة أو ليس كذلك... إنك لن تجد السعادة أبداً حتى تكفَّ عن التفتيش عنها. سعادتي العظمى هي عدم فعل أي شيء محسوب من شأنه أن يمنحني السعادة: وهذا بنظر غالبية الناس، هو أسوأ مسلك ممكن. لنأخذ بعبارة أن "الفرح الكامل هو أن تكون بلا فرح. والحمد الكامل هو أن تكون بلا حمد."
"بين كل الأشياء والأحداث في الكون ليس ثمة حدودٌّ."
علينا أن نتأنَّى في اللغة التي نستخدمها في وصف سيرورة الاستيقاظ لأن ثمة فخاً ذهنياً حاذقاً من شأنه أن يوقِعنا في شراكه الدبقة. والفخ هو المداومة على فكرة وجود حالة نهائية من الاستنارة الصافية واليقظة التامة، وأن هذان مطلبان قابلان للنيل. بعبارة أخرى، خرافة وسوء فهم أن الاستنارة شيء أو مكان – اسم –، بينما هي في الحقيقة سيرورة – فعل. قد يتفق لنا أن نستخدم أحياناً كلمة "يَقِظ" للإشارة إلى حالة وجود بالنسبة إلى النعاس أو الجهل، لكنها يجب ألا تُفهَم بوصفها نقطة نهاية. بذلك عندما نناقش "درب " اليقظة " ينبغي أن يقع التشديد على "درب" – أي السيرورة – لأننا نعدم أية فكرة عما يعنيه كون المرء "يقظاً" وينبغي ألا نفترض أنه نقطة أوج. وبالفعل، فإن جميع " المتيقظين " أنفسهم يشددون على رسالة عدم الديمومة، التي تعْلِمنا بأن كون المرء يقظاً هو ظاهرة تتغير على الدوام.
"إن درجة غياب الخواطر [الأجنبية] هي مقياس تقدُّمك باتِّجاه التحقُّق مع الذات. لكن التحقق مع الذات بحدِّ ذاته لا يقبل التقدم، إذ هو أنت أبداً. فالذات تبقى في تحقُّق دائم . العوائق هي الخواطر. والتقدم يقاس بدرجة إزالة العوائق لفهم أن الذات متحققة دائماً."
ست فضائل على الدرب
الطرق التي يتخطى بها المرء العوائق إلى شاطئ الصحو المنير. هي الفضائل الستة وهي: (العطاء، بكل صوره)، (الأخلاق، الانضباط)، (الصبر)، (الطاقة والهِمَّة)، (التأمل، البصيرة)، (الحكمة العليا).
يعلم المتدينون أن الذي أعطى بحكم الإلزام أدَّى الصدقة الأسمى. لماذا؟ لأن الذي يعطي بدافع مشاعره يظن أنه يفعل شيئاً لأحدهم، بينما الذي يعطي بحكم الشريعة قد نحَّى نفسه بمقدار خطوة وهو يفعل بوعي ذاتي أقل. ذلك جوهر الفضيلة. فعطاؤنا لا يمت بصلة إلى ما نرغب وما لا نرغب ؛ بل يعني كرم الروح، إعطاء كل ما بوسعنا – الوقت، المال، الممتلكات – بدون تفكير بهاجس الذات، وهذا بحد ذاته درب أصلي من دروب اليقظة.
تتصل فضيلة (الأخلاق/الانضباط) بمبادئ العدالة الكونية وبقوانين كَـارما. وهي تتفرع عن الاعتراف بأن كل خاطر وشعور، أو عمل يتردَّد صداه عبر الكون، وبذلك يكون لبصيرة وَاقْعِنا من لحظة للحظة عواقب جسيمة.. إنه الوعي الفوري للمسؤولية الشخصية عن كل نَفَس.
أما (الصبر) فهو الابن الطبيعي لإدراك أن كل شيء يتمدد على الدوام، وبالتالي لا يقبل التوقع. لا شيء يدوم، وبالتالي فإننا إن حاولنا أن نستمسك بالأشياء المرغوبة أو نبعِد عن الأشياء المكروهة سرعان ما سوف يخيب أملنا. الصبر هو الدرب الذي يسمح لنا بأن نكون مرتاحين إلى حكمة عدم الأمان.
تتصل فضيلة (الطاقة/الهمَّة) بمفهوم ذهنية المبدأ المعروف جيداً، مستوى الانفتاح والتفكُّر، والمداولة للفحص عن كل شيء يطرأ علينا – وكل شيء يخطر لنا في بال – وكأن هذا اللقاء هو أول لقاء، عالمين أن كل لحظة تأتي بشيء جديد. عندما لا يقوم المرء بشيء غير رصد دفق أنفاسه، فإن نوعية الاهتمام الشديد تجعل لكل نَفَس منفردة ندفة من الثلج. عندما نقارَب كل لحظة من حياتنا بهذه السعة من الاهتمام فإن أصداءً خارجية من المظهر سرعان ما تسقط ونتمكَّن من أن نسبر أعماق حتى أبسط الأحداث ومعانيها.
إن مفهوم المداومة على الرياضة عنصر رئيسي في تعزيز اليقظة الروحية. المداومة تعني في الجوهر أنه لا بداية ولا نهاية للرياضة. إن كل مَن يتبع طريقة حياة دينية منقولة لا بد أن يعترف على الفور بعنصر المداومة. عندما يكون الدين من نشاطاتِنا هو مركزُها، يتلوَّن كل ما نفعل عندئذٍ بالتزامنا الديني.
تنمية المداومة على الرياضة
ما هو منهج أو رياضة التفتح الروحي الذي ليس بمنهج أو رياضة ؛ ما هو المعلِّم/المُعِين الذي ليس بمعلِّم/مُعِين؟
المعرفة الروحية ليست فكرية أبداً، بل هي تتفتح عبر الخبرة المباشرة.
إن التزام الاستعداد للسير على درب المستنيرين، هو خبرة مداومة تتخطى مناهج الرياضة الشكلية. فالمعلِّم والتعليم والمتعلِّم واحد.
ليس في هذه السيرورة أسرار، وليس فيها مناهج. "ماذا تنتظر؟" لا تتكلم على رياضة، لا تحلم بخلوة شهر على الجبل، لا تتخيَّل يوماً سيكون لديك فيه متَّسع من الوقت. افعل! الفعل هو الشرط اللازم للـ"معرفة". ولا يمكن أن "نحصل عليها" بمجرد التفكير.
"خبرة الروحانية المعمَّقة تبدو وكأنها تكاد تكون شاملة جميع المصابين بالإيدز كل من يواجه الموت تقريباً يتعمَّق روحياً.
فكما أن النعاس يفضي إلى السبات، كذلك اليقظة تنبِّه البصيرة.
الجواب على سؤال "كيف نستيقظ؟" بسيط بساطة عبارة "باشِر الآن!"، وصعب صعوبة إعادة بناء طريقة وجودنا برمَّتها. تلك هي علَّة أن غالبيَّتنا لا تستيقظ – إذ إنه لمن الصعوبة بمكان التخلِّي عن هوية مَن نظن أننا هم ، من أجل المقدار المجهول لمَن نظن أننا نودُّ أن نكونهم . ومع ذلك فمن الممكن إرشاد أنفسنا بلطف ورحمة على درب سوف يهبنا ثمرة اليقظة.
وخطوتنا الأولى في اليقظة هي إدراك أن هذه المقامات ليست متاحة لأفراد خاصين وحسب، بل لنا جميعاً. فبفتح أنفسنا للصِّدِّيق وللقديس في الداخل، نتيح لأنفسنا الفرصة لاكتشاف سبيل اليقظة. وفي كل المنقولات، يصبح هذا الدرب أسلوب حياة ، كافياً بحدِّ ذاته. فكل يوم سوف تعيننا هذه البصيرة على المجاهدة من أجل المزيد من الكرم المجاني ، ولسوف تبقينا بصيرين أكثر بما يترتب على أفعالنا (خاصة عندما تتعلق بآخرين)، ولسوف تذكِّرنا أكثر عندما يستبدُّ بنا الجزع أو السأم، بأن هذا مجرد طور عابر ، ولسوف تحرِّض فضول طفلنا الداخلي لرؤية الأشياء بعين جديدة ، ولسوف تذكِّرنا دوماً بأن الموت يقف منَّا قاب قوسين أو أدنى.