بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الحديث القدسي : " يا عبادي ؛ إني حرمت الظلم على نفسي ... "
عن أبي ذرٍّ الغفاري -رضيَ اللهُ عنه-، عن النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- فيما يَرويه عن ربِّه -تبارك وتَعالى- أنه قال:
« يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ، إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ، إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي، فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ ».
الشَّـرح:
" إِنِّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نَفسِي ".
أي: ألا أظلم أحدًا لا بزيادة سيِّئات لم يَعمَلها، ولا بِنقصِ حسناتٍ عَمِلها.
وفيه دليلٌ على أنَّه -جلَّ وعلا- يُحرِّم على نفسِه ويوجبُ على نفسِه.
" وَجَعَلْتُهُ بَينكُم مُحرَّمُا؛ فلا تَظالَمُوا ".
أي: لا يَظلم بعضُكم بعضًا.
والجَعلُ -هنا-: هو الجعلُ الشَّرعي.
الجَعلُ الذي أضافه الله إلى نفسِه: إمَّا أن يكون كونيًّا؛ مثل قوله -تَعالَى-: {وَجَعَلْنَا اللَّيلَ لِباسًا - وجَعلْنا النَّهارَ مَعاشًا} [النبأ: 10-11]، وإمَّا أن يكون شرعيًّا؛ مثل قوله -تَعالَى-: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} [المائدة: 103].
" جَعَلْتُهُ بَينكُم مُحرَّمُا ".
الظُّلم بالنِّسبة للعِباد فيما بينهم يكون في ثلاثةِ أشياء؛ قال -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام-: " إنَّ دماءَكم وأموالَكم، وأعراضَكم، عليكم حَرامٌ.. ".
" يَا عِبادِي؛ كُلُّكُم ضَالٌّ إلا مَن هَدَيتُه، فاسْتَهدُوني أَهْدِكُمْ ".
النَّاس في الضَّلال قسمان:
- قِسم تائهٌ: لا يعرف الحقَّ؛ مثل: النَّصارى.
وقِسم غاوٍ: عَلِم الرُّشدَ؛ فاختارَ الغيَّ عليه؛ مثل: اليهود.
والهداية مِن الله قِسمان -أيضًا-:
- هداية دلالة: وهي أن يُبيِّن لهم الحقَّ ويَدلَّهم عليه، وهذه حقٌّ على الله.
وهداية توفيق وإرشادٍ: وهذه يَختص بها اللهُ مَن يشاء.
" يا عِبادِي؛ كُلُّكُم جائِعٌ إلا مَن أَطعَمْتُه، فاستَطْعِمُوني أُطْعِمْكُم، يا عِبادِي كُلُّكُم عَارٍ إِلا مَن كَسَوتُهُ؛ فاسْتَكْسُوني أَكْسُكُم ".
في الرَّبط بين الطَّعام والكسوةِ والهداية مُناسبة؛ لأنَّ الطَّعام في الحقيقة كسوةُ البَدن باطنًا؛ لأنَّ الجوع والعطشَ مَعناه خلو المعدةِ من الطعام والشَّراب، وهذا تَعرٍّ لها، والكسوةُ سَتر البدنِ ظاهرًا، والهداية السترُ. المهم المقصود، وهو ستر القُلوب والنُّفوس من عيوب الذُّنوب.
" يا عِبادي؛ إنَّكُم تُخْطِئُونَ باللَّيلِ والنَّهار وأنا أَغفِرُ الذُّنوب جَميعًا؛ فاسِتَغفِروني أَغفِرْ لَكُم ".
شُروط التَّوبة النَّصوح خمسة:
1- الإخلاصُ لله.
2- والنَّدم على ما وقع.
3- والإقلاعُ عن الذَّنب.
4- والعزيمةُ على عدم العَودة له.
5- وحصول التَّوبة في وقتها؛ أي: قبل الوفاة، وقبل طلوع الشَّمس من مغربها.
" يَا عِبادِي؛ إِنَّكُم لَنْ تَبلُغُوا نَفعي فتَنفَعوني، وَلَن تَبلُغُوا ضُرِّي فتَضُرُّوني ".
الله غَنيٌّ عنا، لا تنفعُه طاعتُنا، كما لا تضرُّه معصيتُنا.
" يا عِبادي؛ لو أنَّ أوَّلَكُم، وآخِرَكُم، وإِنْسَكُم، وجِنَّكُم، كانُوا على أتقَى قَلبِ رَجُلٍ واحِدٍ مِنكُم؛ ما زادَ ذلك في مُلكِي شيئًا ".
لأنَّ الملكَ مُلكُه، لا للطَّائِعين، ولا للعاصِين.
" يا عِبادي؛ لو أنَّ أوَّلَكُم، وآخِرَكُم، وإِنْسَكُم، وجِنَّكُم، كانُوا على أَفجَرِ قَلبِ رَجُلٍ واحِدٍ مِنكُم؛ ما نَقص ذلك مِن مُلكي شيئًا ".
فاللهُ -جلَّ وعلا- لا ينقص مُلكه بمعصية العُصاة، ولا يزيد بِطاعة الطَّائعين، هو مُلك الله على كلِّ حال.
في الجمل الثَّلاث: دليل على غِنى الله، وكمالِ سُلطانه، وأنَّه لا يتضرَّر بأحدٍ، ولا يَنتفعَ بأحَدٍ؛ لأنَّه غني عن كلِّ أحد.
" يا عبادِي؛ لو أنَّ أوَّلكُم، وآخِرَكُم، وإِنسَكُم، وجِنَّكُم، قامُوا في صعيدٍ واحِدٍ؛ فسألُوني فَأعطَيتُ كُلَّ إنسانٍ مَسألَتَه؛ ما نَقَصَ ذلك مِمَّا عندي إلا كما يَنقصُ المخيَط إذا أدخِلَ البَحرَ ".
هذه الجملة تدلُّ على سَعةِ مُلك الله وكمال غِناه -تبارك وتَعالَى-.
" يا عِبادي؛ إنَّما هي أعمالُكُم أُحصِيها لَكُم، ثم أُوفِّيكم إيَّاها ".
أي: الشَّأن كلُّه أن الإنسانَ بِعَمَله، يحصي الله أعمالَه، ثم إذا كان يوم القيامة وفَّاه إيَّاها.
" فمَن وَجَد خَيرًا؛ فَلْيحمَدِ اللهَ، ومَن وَجَد غيرَ ذلكَ؛ فَلا يَلُومَنَّ إلا نَفسَهُ ".
لأنَّه هو الذي أخطأ، ومنع نفسَه الخير، أما إذا وَجد خيرًا؛ فليحمد الله؛ لأنَّه هو الذي مَنَّ عليه أوَّلًا وآخِرًا؛ منَّ عليه بالعمل، ثم منَّ عليه بالجزاء.
اختصرته من شرح الإمام ابن عثيمين -رحمه الله-.
لمن أراد تمام الشَّرح؛ فليراجع: شرحه على "رياض الصَّالحين"، باب المجاهدة، الحديث السَّابع عشر.