الشرك بالله أعظم ذنب عصي الله به في الأرض، والله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وقد جاءت عدة أحاديث قد يفهم منها عدم وقوعه في هذه الأمة وعدم خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من الوقوع في الشرك، بينما جاءت أحاديث أخرى تفيد حصول الشرك في هذه الأمة .
ففي صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم).
وأخرج البخاري: (والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها).
وفي المقابل أخرج مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم: (لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى).
وجه التعارض بين الحديثين:
ظاهر الحديث الأول والثاني يشير إلى نفي حصول الشرك في هذه الأمة، ويقضي بعدم وقوعه، والحديث الثالث (لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى)، يؤكد حصول الشرك في الأمة، وقد وقع ذلك، فما وجه الجمع بين هذه الظواهر.
لا شك أن الرجوع إلى كلام أهل العلم والبصيرة في توجيه هذا التعارض الظاهر بين النصوص يزول معه الإشكال، ويتجلى معه الغموض، وهذه بعض توجيهاتهم:
التوجيه الأول:
أن اليأس الذي حصل من الشيطان هو باجتماع الأمة على الشرك والكفر، وهذا لن يحصل بصريح الأدلة القاضية ببقاء طائفة من الأمة على الحق، وبأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولكنه لا ينفي حصول ذلك من أفراد الأمة، قال ابن رجب في شرح الحديث: " إنه يئس أن يجتمعوا كلهم على الكفر الأكبر" ، ومثله حديث (والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي...) قال الحافظ بن حجر : " أي على مجموعكم، لأن ذلك قد وقع من البعض، أعاذنا الله تعالى منها".
التوجيه الثاني:
أن المقصود بالحديث الأول عبادة الشيطان نفسِه، فلا يمنع من وقوع عبادة غيره كالأنبياء والملائكة، وأئمة آل البيت، وسائر المعبودات من دون الله، فالميؤوس منه التوجه بالعبادة للشيطان نفسه في جزيرة العرب، وهذا يؤيده الواقع فإنه لم يظهر إلى الآن أن المصلين في جزيرة العرب، أو بعضهم أظهروا عبادة الشيطان، وإن كان قد ظهر في بلدان أخرى في الغرب من يعبد الشيطان، فلا يعارض الحديث؛ لأن الحديث مخصوص بالمصلين في جزيرة العرب.
التوجيه الثالث:
أنَّ (أل) في (المصلين) عهدية، فيكون المقصود بالمصلين الصحابة رضي الله عنهم، بدليل قوله (ولكن بالتحريش بينكم) يقول الطيبي: " لعل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أخبر بما يكون بعده من التحريش الواقع بين صحبه رضوان الله عليهم أجمعين، أي أيس أن يعبد فيها، ولكن يطمع في التحريش... ".
وعلى هذا؛ فالقول بأن الشرك منتفٍ عن هذه الأمة مخالف للواقع، كما أنه مخالف للفهم الصحيح لنصوص الشرع، فنحن نرى القبور والأضرحة التي يَصرف لها فئامٌ من الخلق عباداتٍ وقرباً لا تصرف إلا لله، فهل نقول بأن ذلك ليس شركا ًكما يزعم من لا حجة له؛ لتبرير ما يحصل، اتكاءً على ظاهر الحديث الأول، مُتَعامين عن الأحاديث القاطعة بحصول الشرك من هذه الأمة، متغافلين عن الواقع المشاهَد بل ويسمون الأشياء بغير ما سماها الله تعالى به، كالقول بأنه توسل أو تبرك مشروع، وهو شرك صُراح لا يخفى على ذي بصيرة.
وبهذا تتناسق ظواهر الأحاديث، وتأتلف معانيها على إثبات حصول الشرك في أفراد الأمة، ومنع حصوله من عمومها، أو من خصوصها وهم الصحابة رضي الله عنهم.