تبدأ الحكاية ب : كان ياما كان ياسعد يا إكرام , في سالف العصر والأوان
وما يحلو الكلام إلا بذكر خير الآنام , عليه الصلاة والسلام
كان في..
حتى حفظنا تلك المقدمة وأصبحنا نردّدها أمامها مع كل حكاية جديدة..
بالطبع لن أحكي لكم حكايات
ولكن, سأقص عليكم قصة مثل من الأمثال العربية على طريقة جدتي
المثل النصيحة بجمل
القصة :
كان ياما كان ياسعد يا إكرام , في سالف العصر والأوان
وما يحلو الكلام إلا بذكر خير الآنام , عليه الصلاة والسلام
كان في رجل ضاقت به سبل العيش ، فسئم الحياة وقرر أن يهيم على وجهه في بلاد الله الواسعة ، فترك بيته وأهله وغادر المنطقة متجهًا نحو الشرق
وسار طويلاً حتى وصل بعد جهدٍ كبير ومشقةٍ عظيمة إلى منطقة شرقيّ الأردن ، وقادته الخطى إلى بيت أحد الأجواد الذي رحّب به وأكرم وفادته
وبعد انقضاء أيام الضيافة سأله عن غايته ، فأخبره بها ، فقال له المضيف : ما رأيك أن تعمل عندي على أن أعطيك ما يرضيك
ولما كان صاحبنا بحاجة إلى مكان يأوي إليـه ، وإلى عملٍ يعمل فيه اتفق معه على ذلك .
وعمل الرجل عند مضيفه, أحيانًا يرعى الإبل وأحيانًا أخرى يعمل في مضافته يعدّ القهوة ويقدمها للضيوف ، ودام على ذلك الحال عدة سنوات كان الشيخ يكافئه خلالها ببعض الإبل والماشية .
ومضت عدة سنوات اشتاق فيها الرجل لبيته وعائلته وتاقت نفسُه إلى بلاده وإلى رؤية أهله وأبنائه ، فأخبر صاحب البيت عن نيته في العودة إلى بلده ،
فعزّ عليه فراقه لصدقه وأمانته ، وأعطاه الكثير من المواشي وبعض الإبل وودّعه وتمنى له أن يصل إلى أهله وهو بخير وسلامة .
وسار الرجل ما شاء الله له أن يسير ، وبعد أن قطع مسافة طويلة في الصحراء القاحلة رأى شيخًا جالساً على قارعة الطريق ، ليس عنده شيء سوى خيمة منصوبة بجانب الطريق
وعندما وصل إليه حيّاه وسأله ماذا يعمل لوحده في هذا المكان الخالي وتحت حرّ الشمس وهجير الصحراء ، فقال له : أنا أعمل في التجارة .
فعجب الرجل وقال له : وما هي تجارتك يا هذا ، وأين بضاعتك ؟
فقال له الشيخ : أنا أبيع نصائح .
فقال الرجل : تبيع نصائح ، وبكم النصيحة ؟!
فقال الشيخ : كلّ نصيحة بجمل .
فأطرق الرجل مفكرًا في النصيحة وفي ثمنها الباهظ الذي عمل طويلاً من أجل الحصول عليه ، ولكنه في النهاية قرر أن يشتري نصيحة مهما كلفه الأمر فقال له : هات لي نصيحة ، وسأعطيك جملاً
فقال له الشيخ :" إذا طلع سهيل لا تأمَن للسيل " .
ففكر الرجل في هذه النصيحة وقال : ما لي ولسهيل في هذه الصحراء الموحشة ، وماذا تنفعني هذه النصيحة في هذا الوقت بالذات .
وعندما وجد أنها لا تنفعه قال للشيخ : هات لي نصيحة أخرى وسأعطيك جملاً آخر .
فقال له الشيخ : " أبو عيون بُرْق وأسنان فُرْق لا تأمن له " .
وتأمل صاحبنا هذه النصيحة أيضًا وأدارها في فكره ولم يجد بها أي فائدة ، فقال والله لأغامرنّ حتى النهاية حتى لو ضاع تعبي كلّه في دقائق معدودة ، فقال للشيخ هات النصيحة الثالثة وسأعطيك جملاً آخر .
فقال له : " نام على النَّدَم ولا تنام على الدم " .
ولم تكن النصيحة الثالثة بأفضل من سابقتيها ، فترك الرجل ذلك الشيخ وساق ما معه من مواشٍ وسار في طريقه ، وظل يسير لعدة أيام نسي خلالها النصائح من كثرة التعب وشدّة الحر ،
وفي أحد الأيام أدركه المساء فوصل إلى قوم من ( العربان ) قد نصبوا خيامهم ومضاربهم في قاع وادٍ كبير ، فتعشّى عند أحدهم وباتَ عنده ، وفي الليل وبينما كان ساهرًا يتأمل النجوم طلع نجم سُهيل ...:think:
تُرى ما الذي حدث بعد ذلك؟!
نكمل قصة المثل والنصيحة الأولى كانت: " إذا طلع سهيل لا تأمَن للسيل "
... وعندما رآه الرجل تذكّر النصيحة التي قالها له الشيخ ففرّ مذعورًا ، وأيقظَ صاحب البيت وأخبره بقصة النصيحة ، وطلب منه أن يخبر قومه حتى يخرجوا من قاع ذلك الوادي ،
ولكن المضيف سخر منه ومن قلّة عقله ولم يكترث له ولم يأبه لكلامه ، فقال والله لقد اشتريت النصيحة بجمل ولن أنام في قاع هذا الوادي ،
فقرر أن يبيت على مكان مرتفع ، فأخذ جاعِدَهُ ونام على مكان مرتفع بجانب الوادي .
وفي أواخر الليل جاء السيل يهدر كالرعد فأخذ البيوت والعربان ، ولم يُبقِ سوى بعض المواشي . وساق الرجل ما تبقى من المواشي وأضافها إلى مواشيه ، وأنعق لها فتبعته وسار في طريقه عدة أيام أخر حتى وصل في أحد الأيام إلى بيت في الصحراء ،
فرحب به صاحب البيت وكان رجلاً نحيفًا خفيف الحركة ، وأخذ يزيد في الترحيب به والتذبذب إليه حتى أوجس منه خيفة ، فنظر إليه وإذا به " ذو عيون بُرْق وأسنان فُرْق "
فقال : آه هذا الذي أوصاني عنه الشيخ ، إن به نفس المواصفات لا ينقص منها شيء .
وفي الليل تظاهر الرجل بأنه يريد أن يبيت خارج البيت قريبًا من مواشيه وأغنامـه ، وأخذ فراشه وجَرَّه في ناحية ، ولكنه وضع حجارة تحت اللحاف ،
وانتحى مكانًا غير بعيد يراقب منه حركات مضيفه ، وبعد أن أيقن المضيف أن ضيفه قد نام ، خاصة بعد أن لم يرَ حراكًا له
أخذ يقترب منه على رؤوس أصابعه حتى وصله ولما لم يسمع منه أية حركة تأكد له أنه نائم بالفعل ،
فعاد وأخذ سيفه وتقدم منه ببطء ثم هوى عليه بسيفه بضربه شديدة ، ولكن الضيف كان يقف وراءه فقال له : لقد اشتريت والله النصيحة بجمل ثم ضربه بسيفه فقتلـه ، وساق ماشيته وغاب في أعماق الصحراء .
تُرى ما الذي حدث بعد ذلك؟!
وبعد مسيرة عدة أيام وصل في ساعات الليل إلى منطقة أهله ، فوجد مضارب قومه على حالها ، فترك ماشيته خارج الحيّ ،
وسار ناحية بيته ورفع الرواق ودخل البيت فوجد زوجته نائمة وبجانبها شاب طويل الشعر ، فاغتاظ لذلك
ووضع يده على حسامه وأراد أن يهوى به على رؤوس الأثنين ،
وفجأة تذكر النصيحة الثالثة التي تقول " نام على الندم ولا تنام على الدم " ، فبردت أعصابه وهدأ قليلاً فتركهم على حالهم ،
وخرج من البيت وعاد إلى أغنامه ونام عندها حتى الصباح
وبعد شروق الشمس ساق أغنامه واقترب من البيت فعرفه الناس ورحبوا به ، واستقبله أهل بيته وقالوا :
والله من زمان يا رجل ، لقد تركتنا منذ فترة طويلة ، انظر كيف كبر خلالها ابنك حتى أصبح رجلاً ،
ونظر الرجل إلى ابنه وإذا به ذلك الشاب الذي كان ينام بالأمس بجانب زوجته
فحمد الله على سلامتهم ، وشكر ربه أن هداه إلى عدم قتلهم
وقال بينه وبين نفسه والله إن كل نصيحة أحسن من جمل
وهكذا فإن النصيحة لا تقدّر بثمن إذا فهمناها وعملنا بها في الوقت المناسب
وإلى أن ألتقي معكم في قصة مثل آخر
أترككم في حفظ الرحمن
م/ن