بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
أفلاطون ومفهوم النفس البشرية
|
يعتمد (أفلاطون) في تحليله لأشكال الفعل الإنساني جملة من التصورات المستمدة من فلسفته العامة القائمة على ثنائية العالم الذي يضم عالمين هما: عالم المثل حيث الحقيقة المطلقة التي تنطوي على معايير الحق والخير والجمال في إطلاقها، ويسود فيه العدل المطلق. وعالم الواقع الذي يعيش فيه الناس ويتواصلون مع بعضهم بعضا، ويتبادلون التعاون بأشكال مختلفة، ويعتمدون في ذلك على حواسهم بشكل رئيسي”[1]“.
ومع وجود النفس البشرية في عالم الواقع، عالم الإحساس، كان انفصالها عن عالم المثل، الذي هو عالم الحقيقة، وبانفصالها هذا واتحادها مع الجسد فقدت كل معارفها التي كانت تحوزها في عالم المثل، فأصبحت لا تعرف شيئا، وهي غير قادرة على فعل شيء. ولكنها تستطيع استذكار ما فقدته من خلال التجارب المستمرة، ومن خلال تحكيم العقل في هذه التجارب، فتكون عملية الاستذكار تحويل قدرات النفس من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل.
وعلى هذا الأساس يجد (أفلاطون) أن في كل نفس قوتين متقابلتين، بينهما تجاذب، فلكل إنسان حزن وفرح، لذة وأذى. وبينما ينظر إلى القوة الأولى على أنها قوة تمييزية، ينظر إلى الثانية على أنها قوة بهيمية.
وفي حين تعمل القوة الأولى وفق ما تقتضيه معايير عالم المثل، تتجه الثانية لتلبية احتياجات النفس التي تعززها حاجات الواقع المادي، وفي ذلك يقول (أفلاطون) إن الإنسان مركب من عنصرين، هما النفس والطبيعة. أما الطبيعة فهي ينبوع الجور والبخل لامتلاكها ما تقوى عليه واستئثارها بما تظفر به، ولجوئها إلى النفس والقوى الروحانية في إنجاز أفعالها، وإنارة صورها، فإذا غلبت على شخص إنسان اضطرته إلى أن يأخذ ما منح له، ولا يترك إلا ما عجز عنه. أما النفس فإنها أحد ينابيع الجود، فإذا غلبت على الشخص جذبته إلى السماحة والعدل وبذل الخير”[2]“.
وتبعا لذلك يميز (أفلاطون) بين أنفس ثلاث، تتدرج في مكانتها. أما الأولى، وهي أشرفها، النفس الناطقة، وهي جوهر روحي لا نعرف طبيعته وحقيقته، وتقع على عاتقها مسؤلية إدارة الجسم ولعمل على رقيه من خلال التفكير. وتستقر هذا النفس في الرأس لعلو شرفها. لذلك نجد الإنسان منتصب القامة، يسير وهو رافع رأسه بخلاف الكائنات الحية الأخرى التي تفتقر إلى النفس الشريفة. وتأتي النفس الغضبية لتأخذ الموقع الثاني من الأهمية في الشرف والمكانة، ومع ذلك فهي مادية فانية، ومقرها الصدر، ولكنها تتصل بالنفس الأولى عن طريق العنق، وهي تخضع للنفس الناطقة أحيانا، وترفض هذا الخضوع أحيانا أخرى. ثم تأتي النفس الغاذية الشهوانية، وهي مادية كسابقتها تماما، غير أنها أقل شرفا، وأحط مكانة. ومقر هذه النفس هو البطن، وترتبط بحاجات الأكل والشرب والتلذذ والتألم وغير ذلك. ويكمن انحطاطها في كونها محرومة من كل تفكير، ومع ذلك فهي مستعدة لقبول انعكاس تعقلات النفس الناطقة وأوامرها، والى هذا الانعكاس يرجع الفضل في كبح جماح هذه النفس”[3]".
لذلك يجد (أفلاطون) أن أول ما يجب العناية به، بالنسبة إلى الإنسان هو أمر النفس، وإكرامها، لأن إهانتها أمر قبيح، والكرامة هي حق الأمور الإلهية. والنفس الشريفة يجب أن تكرم. غير أن إكرام النفس ليس في إعطائها شهواتها، إنما منعها هذه الشهوات، ولو كان الأمر خلاف ذلك لكان من الواجب أن يعطى الصبي شهواته، وكذلك الجاهل. فهؤلاء يظنون أن إرضاء شهواتهم مدعاة للسعادة أو الهناء، وفي حقيقة الأمر يكمن في إرضاء هذه الشهوات ضرر كبير. لذلك يرى (أفلاطون) أن كرامة النفس تكمن في تأديبها ومنعها من شهواتها إلا ما تسمح به الشرائع وإن كان في ذلك أذى في عاجل الحال”[4]“. فالكد والتعب الذي تأمر به الشرائع حق، وفي غاية الصواب لما يتلوه من الراحة والفضيلة، شأنه في ذلك شأن من يشعر بالأذى من شرب الأدوية الكريهة الطعم، إذ يعد ذلك محمودا لما يترتب عليه من خير وراحة وصحة”[5]“. وعلى هذا، فمن واجب الآباء أن يأمروا أنفسهم بترك الأفعال الخارجة عن الاعتدال مثل الفرح الدائم، والضحك المفرط، والحزن الشديد، والجزع المفرط، وما أشبه بذلك”[6]“.
وتبعا لهذه التصورات نلاحظ أن الفعل الإنساني يرتبط بأشكال عناية الإنسان بنفسه، فإذا أكرمها الإكرام الصحيح، ودربها على منعها الشهوات أخذت تظهر آثار النفس الناطقة، وإلا تسيطر النفس الأدنى، وتظهر آثار أخرى في السلوك. وإذا كان الإكرام ضعيفا كان تأثير النفس الشهوانية، وهي أقل الأنفس مرتبة، هو الواضح في أشكال السلوك،
|