المخاطب
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نهتدي ونستعين ... صلاة وسلام على خير البشر واهله الطاهرين ...
اتيت اليكم اليوم بهذا الموضوع الجميل الشيق .. صحيح هو كثير في كلماته ولكنه كبير بمعناه وقيمته
فلا تتسرعوا بالرد في خاتمته ولكن اعطوه دقائق من وقتكم وعيشوا بين احرفه والله انه لجميل وشيق
فأنا اختكم محبة القرآن وجدت المتعة بين احرفه واسترسل معانيه ومفهومه كلما تقدمت بين اسطره
فكذلك انتم ستوافقوني الراي عند قراتكم لهذا الموضوع وانتم الحكم في ذالك ...ادعكم لكي تعيشوا معه ..
.............................................................................................................
عندما يوشك الإنسان على أداء عمل من الأعمال، يجد نفسه وقد سبقته إلى عمله النية، ويجد أن النية سبقها اختيار بإرادته لأداء هدا العمل دون سواه، ويجد أن هذا الاختيار سبقه وقوف بين عملين أو أكثر، ونقاش مع النفس وقر بعده الرأي على أداء هذا العمل بعينه، وخلال جميع هده المراحل يكون الإنسان مخاطبا نفسه، باستعمال عقله وعلمه وتجاربه، فكأنه مؤسسة تضم أشخاصا عديدين لكل منهم اختصاصه، ولكل منهم رأيه يدلي به حتى يأخذ العقل بقوة الإرادة وبدافع العلم ونوره، الرأي الأصوب والأقرب إلى طبيعة الإنسان فيعقد العزم على تنفيذ مقتضياته.
أن الإنسان هنا يخاطب ويخاطب (بكسر الطاء وفتحها) باطنيا في كل عملية تفكير تنتابه. إنه في الخير يخاطب من لدن شخص كظله يستخرج له الحكم والمواعظ والمعارف بما يجعله يقف عند فعل الخير، وفي الشر نجده يخاطب من لدن الشيطان وجنده، فيجعلون لهم ضلالا تنشر ظلماتها على جسد المخاطب وقلبه وعقله وتملي له وتمنيه فترهبه وترغبه حتى يقر رأيه ويعقد نيته على فعل الشر.
إن الإنسان في كل الحالات مخاطب من لدن غيره، غير أنه لا يعرف هدا الغير، ولا يدرك له شخصية ولا يرى له صورة أو شكل ولا يلمس له وجودا ملموسا إلا ما يلقي إليه من أفكار…
لنتأمل الآن حالة من هده الحالات، ولنر كيف أن الإنسان في وضعه كمخاطب يستطيع أن يفتح عينيه على معارف ما كان له ان يصلها، لو أنه أطلق العنان لثرثرته وانفجارات أسئلته التي لا تنتهي، يقول "الآخر" في عقل الإنسان المتأمل:
" إني لأجدك بين الحروف والكلمات تبحث عن حل لشيء أردته، وأول ما لم تنتبه إليه أنك تبحث عني، وأنك لا تعرفني، وبكلامي لن يكون بيننا خصام، لأنك لن تشكر لي، ولن تكد من أجلي، ولن تشقى وتضحى لتعطيني شيئا وأنت قد تأخد عني مثلا إن رغبت أن تعرفني…"
إن الرمز هنا يشير إلى ذلك الوازع الإنساني إلى الفرار من كل مسؤولية وكل التزام وإلى التملص من كل واجب، فأنا أستمع إليك مادمت أنا المستفيد، وبمجرد ما ترتب علي واجبات تجدني أمنحك ظهري وأقفل دونك مسمعي وأسدل بيني وبينك الحجابات وأقيم الحواجز.
وينطلق الشخص "الأخر" مسترسلا في حديثه إليك، فيطلب منك مثلا ـ أن تتخيل لديه عصا، وتتخيل لهذه العصا ظلا ككل الموجودات التي تعكس الظلال، ويطلب منك أن تتأمل العلاقة بين العصا والظل، أفلا تجد هذه العلاقة.
لنعد إلى العصا نفسها ولنر كم تستطيع وحدها أن ترتع بنا، في جميع حقول العلم والمعرفة.. إننا نستطيع مثلا أن نرى فيها رمزا للحرث وتكاثر الخيرات الأرضية وتراكم الأموال، أو إشارة إلى قوس أو رمح يزدهر به القنص والصيد فتنشط في جرائها التجارة وتتزايد الخيرات فتعم فتفيض فيصبح فيضها عالة عليه لأنه تراكم للأموال نفسها.
ثم لنر كم نحن متشبثون بالحياة الدنيا، إذ لم نفكر سوى بخيراتها وبتراكم الأموال والمتاع لمجرد معاينتنا لعصا عادية وتأملنا لها ، فهل كانت العصا حقاً توحي بذلك كله أم أنه من اختيار دواتنا أو نفوسنا، ومن استسلام عقولنا لهذا الاختيار على فساده وانحرافه عن الجادة التي ليست سوى العبادة؟ وما خلق الله الجن والإنس ليفعلوا شيئا سوى ليعبدوه، وما العبادة سوى أداء حقوق الحياة وواجباتها سليمة غير مغيرة ولا محرفة ولا مغشوشة، أداء يصاحبه التفاني في العمل والإتقان في الحركة والإخلاص في النية ثم القناعة بالعاقبة كيف ما كان المآل.
انظر إلى هذه العصا ـ أيضا- لو قدمتها لك فطلبت منك أن تتركها لديك إلى أن أعود فأسترجعها منك لأجبتني بأن أتركها في أي ركن من بيتك أو متجرك أو مكتبك فما هي سوى عصا وكفى، وانظر كيف يحسن بك أن تدع هذا الهراء في القول فتتذكر أن في الآمر إشارة ورمزا إلى الأمانة، إنها عصا وكفى، ولكنها أصبحت مقدسة لارتباطها بالوديعة وبالأمانة، فهل كنت ستراها كذلك؟ لا تكذب! لقد أمرنا الله تعالى برد الأمانات إلى أهلها، ولم يخص بهذا الأمر الأمانات الثمينة النفيسة. ثم ألم تذكرك العصا والأمانة باليتامى والمساكين وبالصدقة؟ وهل أنت تتصدق؟ أجب نفسك وانظر من أمرك فترى من أنت، أما فكرت أيضا في أن العصا قد تصبح مكنسة مع إضفاء تغيير بسيط عليها، بإضافة بعض الأغصان الصغيرة الرفيعة إليها، وماذا ستكنسه بهذه المكنسة؟ إننا قد نهتدي إلى كنس الأفكار الخبيثة، فنحقق بذلك نوعا من السلامة يعز في هذا الزمان.. فهل معك أفكار خبيثة نتولى معا كنسها ونفض غبارها عن عقلك الذي هو صاحب العرش في ملك نفسك؟
يضيف الشخص "الآخر" أنه كسر عصاه إلى قسمين ليريك أن لهما ظلين… ثم فصلهما إلى قسمين فأصبح له أربع أجزاء من العصا الأولى الأصلية، فيسألك هل فهمت من هذا شيئا؟
إن المسؤولية قد اتسعت وكبرت بعد أن أصبح العبء أربعة أعباء… لقد كانت الأمانة عصا واحدة فأصبح في الأمر أربع أمانات ماذا يحسن للمرء أن يصنع بها؟ أخيرا، أم شرا؟
إن العصا الأولى هي مسؤولية أولى عن نفسك أيها المخاطب، والعصا الثانية مسؤولية عن أهلك ومن يتبعك، والثالثة مسؤولية عن مالك متاعك وجاهك، أما الرابعة فهي أم المسؤوليات، إنها مسؤوليتك عن دينك فماذا فعلت بكل ذلك؟
ها أنت الآن قد أدركت مسؤولياتك كاملة من مجرد التأمل في عصا عادية لم توجد أصلا، وإنما طلب منك صاحبها أن تتخيل أنها معه.. فتحمل الآن مسؤولياتك وانظر مع نفسك، بلا كذب، كيف سيكون شأنك… انظر- يضيف "الآخر"- أنك إن صففت الأجزاء الأربعة لعصاي بحيث توقفها على الأرض فإنك ستجدها لا تظهر سوى جزء واحدا بينما اختفت الأجزاء الثلاثة الأخرى وراءه، وإذا تحولت عن موقفك هذا تجدها أربعة أجزاء تتقارب أو تتباعد حسب موقعك منها…انظر أيضا لو أنك جمعتها بالطول إلى بعضها، كيف ستجد لديك عصا أطول بكثير ولو أنك عبثت بأجزائها، كم ستجد أمامك من تشكلات عددها لا ينتهي أبدا وكل منها لا يشبه الأخر… فهل أدركت أنك بالعصا وحدها تتعلم الكثير تقف على الكثير…؟
سأدعك الآن، ولنضرب موعدا أخر نكمل فيه مشوارنا، فهل نلتقي في مقهى أم في حانة؟ إنك لو كنت أحد رواد هذه الأماكن فلن تحترم الموعد ولن تأتي… وإن كنت غير أولئك فأنني سأنتظرك حيث يوجد الإنسان وحيث يستطيع أن يوجد هذا الإنسان.
كأننا هنا أمام الشخص النوراني في دواتنا، بل أمام الملاك المقيض لنا، بمقابل الشيطان القرين، ليأخذ بأيدينا نحو سبل الخلاص الروحي، نحو الإيمان الباعث على الاطمئنان، بل لكأننا، هنا نخاطب من لدن شخص باطني يلقي في عقولنا بالإملاء فنتجاذب معه الأفكار فنتفق تارة و نختلف تارة، ويا ليتنا لو كنا دوما على اتفاق، لما وقع أحدنا في المحظور… ومن من الناس يستطيع أن ينكر وجود هذا الشخص المتحدث إليه في عقله ينصحه حيث تجب النصيحة ويزجره حيث يجب الزجر، لا يخاصمه ولو أخطأ، بل يستمر في بذل الجهد تلو الجهد لتخليصه من آثامه، من من الناس يقدر على القول: أنه فعل ما فعل وحيدا دون إملاء من أحد داخله؟ إن السؤال هنا موجه إلى المؤمن بالغيب، والذي يعرف الله تعالى يملي لعباده، وأن القرين يملي للإنسان، وأن الإملائين يختلفان وسيلة وأسلوبا ونتيجة.
يعود الشخص الآخر مرة أخرى، في موعد آخر في فضاء المتأمل، يبدأ بالكلام:
إنك تحتاط مني وليس بيني وبينك حساب ولا علاقة! لقد أخذت مني علما ما سألتك عن ذلك شيئا، أن علاقتي بك لا تتعدى الخطاب أوجهه إليك وأجيب أحيانا بدلا منك، حتى لا تكذب علي.. إنني لا أبيعك شيئا ولا اشتري منك أي شيء. فهل أنت تبيع وتشتري؟ إلا خبرني هل بعت شيئا لأحد؟ ثم قل لي هل بعت شيئا كان مودعا لديك أمانة؟ هل اشتريت به ثمنا قليلا؟ هل فرطت فيه فلم تحتفظ به وأنت تعلم ـ وقد قلت لك ذلك مراراً ـ أنك ستسأل عنه؟ إنه إيمانك، إنه عرضك، شرفك، أمانة الله فيك… هل بعت كل ذلك؟ اسأل نفسك وأجب نفسك لم بعته ولمن وما الفائدة؟ إنك إذا لم تفعل بعد فإني أوصيك أن تعرض عن ذلك. أنك إذا بعت فلن تلق مني سوى الخصام، ولن تسمع مني سوى شنيع القول، ولن ترى مني سوى سيء المعاملة. إنني أشفق عليك فهل أشفقت أنت على نفسك وعلى غيرك؟ إنني لا أحاسبك فليست بيني وبينك علاقة حساب، وإنما أذكرك بما ينتظرك لفرط إشفاقي منك فتعلم. استغفر لربك إن كنت فعلت شيئا مما حذرتك من فعله فإن الله غفور رحيم، وأنه يحب الأوابين ويحب المتطهرين، فاستغفر لتنجو من العذاب، فقد تندر الله أن يغفر لمن يستغفر، وأن يغفر لمن يشاء من عباده، فادخل في زمرة هؤلاء باستغفارك ربك.
لقد خاطبتك أول مرة فطلبت منك أن تتأمل عصاي وذكرت لك منها أمثلة كثيرة فهل تذكر كل الأمثلة التي أعطيتك بعصاي؟ طلبت منك إن كنت تستطيع أن تعد من واحد إلى ألف فلمست منك أنك تدعي قدرتك على فعل ذلك، وقلت لي أنني أستطيع أن أفعل. وإلا فقل لي اسم ألف من الفاكهة، وألف من الشجر، وألف من الطير، وألف من الحيوان والوحش، وألف من نعم الله التي يسبغها على عباده… وأنك إذا لم تستطع أن تفعل فاعلم أنك لا تحسن العد من واحد إلى ألف، وإنما وضعت لك الرقم لتقريبك من إدراك الحقيقة، أما نعم الله فإنها لا تعد ولا تحصى بالألف ولا بالآلاف، فتعلم.
ويرتفع أسلوب المخاطبة فيرتفع معه مستوى العلم وتعلو مراتب المعرفة حين يضيف ذلك "الآخر":
سأحكي لك عن الإنسان وعن أمري معه: وسأعود بك إلى عصاي ليكون الرمز سهلا والمثل أسهل…. لقد قسمتها كما أخبرتك سابقا إلى أربع، ثم تركت جزئين وقسمت الجزئين الآخرين إلى أربع قطع، ووضعت العصي على شكل جعلت فيه الجزئين الأكبرين متوازيين وتبثت بينهما الأجزاء الأربعة الصغيرة هكذا، فظن الإنسان الجهول المتعجل أنني صنعت سلما وفكر أنه يستطيع به أن يصعد وينزل حيث يشاء وتراءت له منفعة الصعود والنزول، لكنني ما فعلت ذلك قط، ولكني إنما قصدت الإشارة بالجزئين الأكبرين إلى الحياة والروح، وبالأجزاء الأربعة الصغيرة إلى العقل والفكر والنفس والحواس، وأردت أن أعلم ذلك الإنسان أن المنفعة لا تكون أبدا إذا نحن فصلنا العصيان الصغيرة عن الكبيرة، لأن الإنسان لا يستطيع أن يحيا بدون عقل وفكر ونفس وحواس، ولأن هذه جميعها لا تستطيع أن تؤتي شيئا بدون روح وخارج إطار الحياة بهذه الروح، ففي الوضع الأول تبقى الحياة ناقصة بدون عقل. وفي الوضع الثاني تنتفي الحياة ويستحيل قيامها. وفي ذلك معنى أن الله يرفع إليه الروح فلا تبقى حياة. وكل من هاتين لهما صلة بالجسم، وقد خلق الله الحيوان والطير فيها الحياة ولكنه لم ينفخ فيها من روحه، وهذا ليدرك الإنسان أن الحياة فيه ليست جزءاً من الخالق سبحانه. لأنها فيه وفي الحيوان والطير والحشرات على قدم المساواة. بالعصي الأربع يمكن للإنسان أن يقرب من فكرة اتصال الحياة بالروح، وباتصال العقل بالفكر، ثم اتصال النفس بالحواس، فالروح تمنح خاصية الحياة للجسم، وبالعقل يدرك الجسم قوة الفكر، بينما النفس تمتلئ أهواء ورغبات وشهوات عن طريق الحواس.
ويفهم من هذا أن صلة العقل بالفكر صلة ثابتة، وصلة النفس بالحواس صلة أيضا ثابتة، إلا أن صلة الكل بالروح والحياة تامة لكن بشكل مفصول.
إن المخاطب يصعب عليه الفهم ولذلك نجد الشخص الأخر يستعمل العصي ليصل به إلى إدراك الحقيقة بالتأمل.
لقد كانت العصي قبل تقسيمها أداة واحدة، وإنما قسمت لفائدة معينة. وهكذا نجده- أي الشخص "الآخر"- يقسم الحياة نفسها إلى أربع:
الحياة ومن صيغتها اليقظة ثم الموت من صيغته النوم ثم نجد تبعا لذلك:
أن العقل صيغته الإدراك والغيبوبة
والفكر صيغته الواقع والخيال
والنفس صيغتها التقوى والفجور
والحواس صيغتها الشعور واللاشعور.
ومن هذه جميعها ندرك أن اليقظة بمعنى الحياة صلتها بالإدراك من العقل، وبالواقع من الفكر، وبالتقوى من النفس، وبالشعور من الحواس، ومن هذا أيضا نجد أن للتقوى صلة بالواقع وإدراك العقل، وأن للفجور صلة بالخيال لإتباع الأهواء، فهو كالغيبوبة، والنفس في إتباعها للأهواء تستهدي بالحواس في لاشعورها بالواقع، لأن الواقع لا يرتفع عن الحقيقة والحقيقة لا تعدم الصلة بالتقوى والإدراك الكامل للعقل.
منقول