الروحية في الإسلام وشؤون المجتمع
الروحية في الإسلام وقوتها أو ضعفها:
هذا البحث، أثار اهتمام كثير من الناقدين والمهتمين بالشؤون الدينية، وقد قرأت طويلاً، وسمعت الكثيرين يناقشون هذا الجانب من الإسلام، ويقفون عند تدخل الإسلام في الشؤون المادية، وعند مقابلة التعدي بالمثل، وردِّ الكيد بالكيد، والاهتمام بالزواج والتأكيد عليه، وحتى الجنة عند الإسلام التي تشبَّه ببستان أيضاً، أي وصف الجنة وإظهارها على شكل بستان جميل.
وتجاهل بعض هؤلاء الباحثين، الروحية المتناهية التي تتجلَّى في العقائد الإسلامية، في الخالق وصفاته وأسمائه، وفي جعل الإيمان بالغيب الركن الأساسي للإسلام في القرآن.
ومهما كان، فعلينا أن نناقش هذا الموضوع بصورةٍ موجزة، بعد لفت نظر المستمع الكريم إلى مقدِّمة إيضاحية، وهي أن التقليد الشائع، يقتضي تقسيم الأشياء عامةً، وأعمال الإنسان خاصةً، إلى مادية وروحية.
وحسب هذا التقسيم، فإن هناك أموراً مادية، يُعد الاشتغال بها إنصرافاً إلى المادة، نظير الأكل، والشرب، والزواج، والتجارة، وأمثال ذلك.
ومقابل هذه الأمور، فالصلاة والعبادة والفداء والتضحية، والانصراف إلى التفكر، تعد من المعنويات والروحيات، لأن القسم الأول، هو أمور زائلة تناسب جسد الإنسان ورغباته الآنية، والقسم الثاني هو تلبية لميول سامية، ولرغبات روح الإنسان وقواها، فتعدُّ أموراً غير مادية.
والحقيقة، أن هذا التقسيم خالٍ من الدقة، ولا ينطبق على التفسير الفلسفي، ولا على التعاليم الدينية ولا يحظى بإقناع روح المؤمن الفاحصة.
فالمادة في التفسير الفلسفي، هي كلّ موجود يحتاج إلى الحيّز والأبعاد، أو كل موجود متحرك، متطوّر الحقيقة، والمجرد، أي غير المادة، هو ما ليس له أبعاد، وما لا يحتاج في ذاته إلى زمان أو مكان أو حركة.
وعلى هذا التفسير، فجميع الحركات الصادرة عن الإنسان مادية، حتى العبادات، والفداء، والإحسان، وحتى التفكّر، فإنه يقترن بحركات خلايا الدماغ التي هي مادية. ولا يتمكن الفيلسوف أن يتصور انفصال الجسم عن الروح، وصدور أفعال من أحدهما بمعزل عن الآخر، لكي يسمي بعضها أفعالاً مادية، وبعضها الآخر أفعالاً روحية.
بل التفاعل بين الجسم والروح، يبلغ درجةً تجعل منهما، عند كثير من الفلاسفة، تركيباً اتحادياً. وقد أبدع صدر الدين الشيرازي حيث جعل الروح ذات حدوث جسماني وبقاء روحاني.
فالميزان الصحيح لمعرفة مادّية شيءٍ وروحيته في أعمال الإنسان، هو باعث العمل وغايته، فكم من صلاة أو صدقة أو تفكر، هي من المادة في الصميم. وما أكثر الأعمال المادية، أو الاجتماعية، أو الإدارية التي تصدر لغايات سامية، فتجعل منها عبادات مقدَّسة. ويتمكن المؤمن أن يجعل حياته كلها سجوداً لله.
ومن جهة أخرى، إذا لاحظنا أن جميع الموجودات من خلق الله، وجميع جوانب وجود الإنسان حقيقة واقعة تبرز الإرادة الإلهية، إذا لاحظنا هذا كله، فمن الصعب جداً أن نفرق بين وجود وآخر، وأن نمّيز بين الجانب والعمل، وبين سائر الجوانب والأعمال، بل لا يمكن التفريق والتمييز، إلا إذا انحرف الإنسان بعمله عن الرسالة الحياتية التي أرادها الله له.
والآن نعود لكي نبحث الجانب الروحي من الإسلام فنقول: إن الإسلام يقدِّس جميع الموجودات الكونية، ويعتبرها، بمادياتها ومعنوياتها، كلها ساجدات لله، مسبحات بحمده. وحتى الموجودات الشريرة أو الضارة، فشرورها وأضرارها نسبية، وإذا استعملت بقدرها وفي موضعها فلا شرّ ولا ضرر.
وبالنسبة إلى الإنسان، يعترف الإسلام بجميع جوانب وجوده، وجميع رغباته، ويحترم ذلك، ثم يحاول تنظيم صلاته بغيره، وتنسيق نشاطاته، وتعديل رغباته، لكي يلعب دوره الكوني، أي دور خلافة الله في الأرض، فيعيش بجميع جوانب وجوده أفضل عيش، وأطيبه، وأكثره تمتعاً بالكون.
وفي هذا الخطّ، خطّ أداء الواجب، كل عمل من الإنسان عبادة، وكل حركة منه مقدَّسة، والعكس بالعكس.
وهكذا ترى أنَّ الإسلام يعطي صفة الروحية لجميع أعمال الإنسان الصادرة عن باعث سليم، ويصبغ جميع الموجودات بصبغة القداسة.
فالأصحّ في التعبير ألاّ نقول بضعف روحية الإسلام واهتمامه بالماديات، بل نقول بقوة هذا الجانب إلى حد يحوِّل كل شيء إلى الروحيات.
ولعلَّ السبب في تعبير القرآن في أغلب المواضيع بالنفس دون الروح، لأجل هذه المقارنة، حيث إن الروح المهتمة بتصريف شؤون الجسد، تسمى نفساً. أما الروح، فهي أسم خاص للشأن التجردي المطلق، الذي يتجلى حال نزول الوحي، وتدبير الشرع، والذي يواكب الملائكة في بعض الآيات القرآنية.
ومن أطرف ما يرى في الأحكام والتعاليم الإسلامية، أنها تؤكد على أن ما خلق الله من الزينة والطيبات إنما خلق للإنسان، وتوجه باللوم إلى من حرم نفسه منها.
وعلى الرغم من التأكيد على ذلك، إلاّ أنها جعلت هذه الأمور فتنة، وذلك من خلال التأكيد على أن النِّعم كلما ازدادت، والأموال كلما كثرت، والجاه كلما عرض، يجب، بالقياس نفسه، العمل على زيادة الإيمان والإكثار من التقوى، وإلا فالإنسان يقع في خطر الانحراف عن الخط المستقيم، والالتهاء بالجانب الشخصي والاستسلام لها، وبهذا الشأن يقول الإمام علي(ع): "ليس الزهد ألا تملك شيئاً، بل الزهد ألا يملكك شيء".
وعلى ضوء واقع الإنسان، وواقع الخلق، وتفسير المعاد، وكون الجزاء بنفس الأعمال... على ضوء هذه الأمور، نفهم واقع الجنة والنعم التي هيأها الله لعباده المتقين.
وقد حاول القرآن بعد ذلك، أن يسبغ على النعم هذه صفات روحية، كالخلود، والطهارة، وعدم السأم، والخمول، ووجود الصفاء، وشمول الأخوة، وعدم استماع اللغو والتأثيم، "إلا قيلاً سلاماً سلاماً". ومع ذلك كله جعل القرآن رضوان الله أكبر نعمة من نعم الجنة وأفضلها، ولكنها للنفوس الكبيرة التي كانت تقول:
"إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك".
أما حديث مقابلة التعدي بمثله، من دون ظلمٍ ولا تجاوز، فهو جزء من النظام العام، الذي وضع لصيانة المجتمع وسلامته، وحفظاً للإنسان.
وأحبُّ أن أذكر هنا نقطةً واحدةً، هي أن الإسلام في هذه المواضيع أيضاً، اعتبر العفو خيراً وأقرب للتقوى، إذ لا يوجب تمادي الطغيان والركون إلى الظلم، وإلا فهو ظلم، يُعدُّ الإنسان به أحد الظالمين.
يتبع