يقف المبتهلون الضارعون إلى الله متلهفين يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً، وينشدون بصائر القرآن؛ لتنير حياتهم فيتألق من أجسادهم نوره يمشون به في الناس...عسى أن يجدوا سبل السلام...ويأخذوا منها أعمدة السعادة في أزمنة الظلام.
البصائر القرآنية هي أهم أعمدة النجاة لبناء الحياة، واتقاء المشكلات، والنجاة في الفتن المضلات، وبدونها يقع الإنسان في العمى، ويتردى في الهلاك والبوار {فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} (الحج:31)، ويتلبط بدونها المرء تلبط الغريق، ولذا قال الله تعالى {قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ} (الأنعام:104)، وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أيها الناس! فإنما أنا بشر، يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به)، فحث على كتاب الله، ورغب فيه، ثم قال: (وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي)، رواه مسلم . فالوصية بـ (القرآن) للتمسك به، والوصية بـ (أهل البيت) لبرهم ومعرفة حقهم، ما داموا بالكتاب متمسكين، وعند ابن حبان عن أبي شريح الخزاعي، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أبشروا، وأبشروا، أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟) قالوا: نعم قال: (فإن هذا القرآن سبب، طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبدا).
من بصائر القرآن وأنواره في البناء الاجتماعي والسياسي: مكانة الأخ المسلم هي مكانة النفس، فقد عظم الله سبحانه مكانة الأخ المسلم من أخيه تعظيماً عجيباً، ثم فصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، وطبقه، فأما في القرآن فإننا نجد وصف (الآخر المسلم) بوصف فريد هو (النفس) حيث جعل الله مكانة الأخ من أخيه كمكانة نفس الإنسان من صاحبها...فماذا يريد الإنسان أن يصنع لنفسه من خيرٍ ويقيها من شرٍّ وضير، فليصنع لأخيه ذلك، فلنرصد ذلك في النظم القرآني الفريد:
الموضع الأول: قوله تعالى: {وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم} (البقرة:54)، فالمراد من قوله: {إنكم ظلمتم أنفسكم} نفس كل إنسان حقيقة، لكن المراد بقوله {فاقتلوا أنفسكم} (البقرة:54)، هو اقتلوا إخوانكم الذين هم بمثابة أنفسكم، وقد روى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: أمر موسى قومه عن أمر ربه عز وجل أن يقتلوا أنفسهم، قال: فاحتبى الذين عكفوا على العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل، وأخذوا الخناجر بأيديهم، وأصابتهم ظلمة شديدة، فجعل يقتل بعضهم بعضاً. وروى عن سعيد بن جبير ومجاهد، قالا: قام بعضهم إلى بعض بالخناجر، يقتل بعضهم بعضاً لا يحن رجل على رجل قريب ولا بعيد.
والآية تحتمل أن يقتل الإنسان نفسه، كما يفعل المنتحر، لكن ذلك لم ينقله المفسرون، ولا أولوا به هذا الموضع، فالشاهد جعل الأخ بمثابة النفس...ترى أين نحن من آثار هذا المصطلح القرآني الفريد؟
الموضع الثاني: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} (البقرة:84). فالمراد من كلمة {أنفسكم} أي: إخوانكم؛ لأن الإنسان لا يخرج نفسه من داره، بل يُخرجه غيره؛ ولذا قال بعدها: {وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان} (البقرة:85)، فكأن الله تعالى يقول: لا تخرجوا إخوانكم الذين هم بمثابة أنفسكم...هل أحد منكم يقبل بأن يُهَجِّر نفسه من داره، ويسلمها لأعدائه أو لخصومه؟
الموضع الثالث: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} (البقرة:85)، وهم في الحرب لا يقتلون أنفسهم، بل يقتلون إخوانهم، ولكنه بَشَّع ما يفعلون بإخوانهم وشنَّع، كأنهم يقتلون أنفسهم، كما أن التعبير يدل على ما يجب أن يكون من العطف واللطف والمحبة تجاه (الآخر المسلم)، وصورت الآية هذه الصورة العجيبة التي تجعل مباشر الاعتداء يرتدع عن عدوانه؛ لأنه لن يعتدي على أخيه بل على نفسه.
الموضع الرابع: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} (البقرة:188)، قال الطبري: "يعني تعالى ذكره بذلك: ولا يأكل بعضُكم مالَ بعض بالباطل، فجعل تعالى ذكره بذلك آكلَ مال أخيه بالباطل، كالآكل مالَ نَفسه بالباطل". فلا يوجد من يأكل ماله بالباطل، فالإنسان يأكل ماله بالحق، والباطل حرق للمال وإتلاف للثروة بالظلم، والإنسان لا يفعل هذا بماله، فيكون المعنى: لا تأكلوا أموال إخوانكم، ولكنه نسب الأموال إليهم، كأنه يقول: كما لا تحبون أن يأكل أحدكم مالكم، كذلك لا تأكلوا أموال غيركم وحقوقهم".
الموضع الخامس: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} (النساء:29)، فقد ذكر المفسرون في قوله: {ولا تقتلوا أنفسكم} عدة معانٍ، من أوجهها: ولا يقتل أحدٌ منكم أخاه. وتحتمل معانٍ أُخر، مثل الانتحار بأن يقتل الإنسان نفسه، إلا أن من معانيها أن لا يقتل بعضكم بعضاً، روى السيوطي عن مجاهد وغيره: {ولا تقتلوا أنفسكم} لا يقتل بعضكم، قال: بعضاً، وفي تفسير مقاتل بن سليمان: "لا يقتل بعضكم بعضاً؛ لأنكم أهل دين واحد".
الموضع السادس: {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين} (النور:12)، والإنسان غالباً يظن بنفسه خيراً، فالمقصود هنا: ظنوا بإخوانهم، وكأن الله يقول: كما لا يحب الإنسان أن يظن به غيره إلا خيراً، كذلك يجب أن يظن الأمر ذاته بغيره، فلا يظن به سوءاً، ولا يتكلم عنه إلا خيراً، كما لا يحب أن يتكلم أحدٌ عنه إلا بالخير، ولذا قال الطبري: "وهذا عتاب من الله تعالى ذكره أهل الإيمان به فيما وقع في أنفسهم من إرجاف من أرجف في أمر عائشة بما أرجف به، يقول لهم تعالى ذكره: هلا أيها الناس إذ سمعتم ما قال أهل الإفك في عائشة ظن المؤمنون منكم والمؤمنات بأنفسهم خيراً: يقول: ظننتم بمن قرف بذلك منكم خيراً، ولم تظنوا به أنه أتى الفاحشة، وقال {بأنفسهم}؛ لأن أهل الإسلام كلهم بمنزلة نفس واحدة؛ لأنهم أهل ملة واحدة".
الموضع السابع: {فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة} (النور:61)، والإنسان إذا دخل على بيت أحد من الناس فإنه يسلم على أهلها، وليس على نفسه، فقد قال الله في بداية الآية: {لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} (النور:27)، فقد جعل الله أهل البيوت بمثابة الأنفس، وقد روى الطبري عن الحسن وابن زيد في قوله تعالى: {فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم} قال: "إذا دخل المسلِّمُ سُلِّم عليه، كمثل قوله: {ولا تقتلوا أنفسكم} إنما هو: لا تقتل أخاك المسلم.
الموضع الثامن: {ولا تلمزوا أنفسكم} (الحجرات:11)، والإنسان عندما يلمز لا يمكن أن يلمز نفسه، إنما يلمز غيره، إلا أن الله جعل الغير بمثابة النفس، قال الطبري: "ولا يغتب بعضكم بعضاً أيها المؤمنون، ولا يطعن بعضكم على بعض...فجعل اللامز أخاه لامزاً نفسه؛ لأن المؤمنين كرجل واحد فيما يلزم بعضهم لبعض من تحسين أمره، وطلب صلاحه، ومحبته الخير"، وقال القرطبي: "(اللمز) باليد والعين واللسان والإشارة. و(الهمز) لا يكون إلا باللسان، وهذه الآية مثل قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} (النساء:29)، أي: لا يقتل بعضكم بعضاً؛ لأن المؤمنين كنفسٍ واحدة، فكأنه بقتل أخيه قاتلٌ نفسه...والمعنى: لا يعب بعضكم بعضاً...وفي قوله: {أنفسكم} تنبيه على أن العاقل لا يعيب نفسه، فلا ينبغي أن يعيب غيره؛ لأنه كنفسه".
فانظر لهذه الجوهرة القرآنية الفريدة: الأخ المسلم هو النفس، ولاحظ الفرق عندما تقول: أنت أخي أو عندما تشعر أنه نفسك التي بين جنبيك، "فما أبلغ هذا الإيجاز! وما أجدر هذه الكلمة بوصف الإعجاز!". ويا لروعة البناء القرآني لعلاقة المسلم بأخيه المسلم! فمن يحيي هذا المنهج القرآني في هذه الأيام بين الأفراد والجماعات والقبائل والأحزاب والدول؟
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا وفصله في قوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) رواه مسلم، وقوله: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) رواه البخاري، أي: كما تحب لنفسك ينبغي أن تحب لأخيك. فأنت إذا أحببت لنفسك الولد والسيارة والزوجة والعيش الكريم، كذلك يجب أن تحب لأخيك.
تنبيه: من أهم مقتضيات هذه الكلمة أن يحب الإنسان لأخيه الخير الدائم في الدين والدنيا؛ لأن حقيقة ذلك أنه يحبه لنفسه، ومن أعظم الخير نصحه ومعاتبته ومراجعته ليرجع إلى الخير، الذي يفترض أن يكون حياته ودأبه، وليس النصح طعناً بأي حال من الأحوال، وهذا النصح قد يتخذ شكلاً سريًّا ما دام الخلل فرديًّا، وقد يتخذ طابعاً علنيًّا، إذا اقتضت المصلحة الشرعية ذلك، كأن يكون الخلل فرديًّا، ولكنه خلل علني تقتضي المصلحة إصلاحه علناً، أو كان الخلل جماعيًّا معلناً، فإن المصلحة تقتضي العلنية غالباً، وقد يتخذ النصح والمعاتبة طريقاً لطيفاً رفيقاً، وهو الغالب في الأسلوب الإسلامي، ولكنه أيضاً قد يتخذ طابعاً فيه شدة مناسبة لمقتضى الحال، حيث لا يتم الارعواء والانزجار إلا به، والتفريق بين هذه الأنواع مفصلة في غير هذا المكان، والموفق فيه من رسخ علمه، وعلا خلقه، وصدقت عاطفته، ووفقه الله فأحبه. اللهم اجعلنا من الموفقين من أوليائك بفضلك ورحمتك.
م/ن